الصفحة 268

الباب الرابع والأربعون
في السخاء والجود في الله تعالى


قال الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}(1).

وقال سبحانه: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً}(2).

فمدح سبحانه اهل الايثار وان كان بهم خصاصة، والمعطين(3) الطعام على حبه، قيل: على حب الطعام، وقيل: على حب الله تعالى، ويجوز أن يكون على حبهما معاً، وهذه الآية نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم بلا خلاف.

وقال النبي صلى الله عليه وآله: السخي قريب من الله، قريب من الناس، [قريب من الجنة](4)، وبعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، [بعيد

____________

1- الحشر: 9.

2- الإنسان: 8.

3- في "ب" و"ج": المطعمين.

4- أثبتناه من "ج".


الصفحة 269
من الجنة](1)، قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيل(2).

ولا فرق بين الجود والسخاء، ولا يسمّى الله تعالى بالسخي لعدم التوقيف على ذلك من كلامه او كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وجلّ كلام العلماء.

وقال علي بن الحسين عليهما السلام: انّي لاُبادر إلى قضاء حاجة عدوّي خوفاً أن يقضيها له غيري او أن يستغني(3).

وقال آخر: ما احب أن أرد أحداً عن حاجة، اما أن يكون كريماً فأصون عرضه، أو لئيماً فأصون عرضي.

وقال رجل لرجل: من أين أنت؟ فقال: أنا من المدينة، فقال له: لقد أغنانا رجل منكم سكن عندنا وذكره له، فقال له: انّه أتاكم ولا مال له، فقال: ما أغنانا بماله ولكن علّمنا الكرم فجاد بعضنا على بعض.

وروي انّ أمير المؤمنين عليه السلام إذا أتاه طالب في حاجة فقال له: اكتبها على الأرض فانّي أكره أن أرى ذلّ السؤال في وجه السائل(4).

وجاء رجل إلى الرضا عليه السلام فقال: يا ابن رسول الله قد نفذت نفقتي ولم يبق معي ما يوصلني إلى أهلي، فأقرضني وأنا أتصدق به عنك، فدخل داره وأخرج يده من الباب وقال: خذ هذه الصرّة ـ وكان فيها مائتي دينار ـ وقال: لا حاجة لنا إلى صدقتك، فقال له: يا ابن رسول الله لم لا تخرج وجهك؟ فقال: نحن أهل بيت لا نرى ذلّ السؤال في وجه السائل(5).

وسأل رجل الحسن بن عليّ عليهما السلام شيئاً فأعطاه خمسين ألف درهم

____________

1- أثبتناه من "ج".

2- عنه معالم الزلفى: 322; ونحوه في مجموعة ورام 1: 171; وروضة الواعظين: 385.

3- في البحار 78: 207 ح 64، عن ابي عبد الله عليه السلام نحوه.

4- عنه مستدرك الوسائل 7: 238 ح 8131.

5- الكافي 4: 23 ح 3; عنه البحار 49: 101 ح 19 بتفصيل أكثر.


الصفحة 270
وأعطى الجمال طيلسانة وكراه وقال: تمام المروّة إعطاء الاُجرة لحمل الصدقة.

وقيل انّ أمير المؤمنين عليه السلام بكى يوماً فسألوه عن سبب بكائه فقال: لنا سبعة أيام لم يأتنا ضيف(1). وما كانوا يبنون بيتاً إلاّ وفيه موضع الضيافة، وضيف الكريم كريم.

وأربعة أشياء لا ينبغي للرجل أن يأنف منها، قيام الرجل في مجلسه لأبيه وإجلاسه فيه، وخدمة الرجل لضيفه، وخدمة العالم لمن يتعلّم منه، والسؤال عما لا يعلم، وكانوا يخدمون الضيف فإذا أراد الرحيل لم يعينوه على رحيله كراهة لرحلته، وأعظم الجود الايثار مع الضرورة الشديدة، كما آثر آل محمد عليه وعليهم السلام بالقرص عند حضور افطارهم وباتوا مطوين، فمدحهم الله سبحانه وتعالى بسورة هل أتى.

قال مصنف هذا الكتاب: ينبغي للعبد أن يكون الغالب عليه الايثار، والسخاء، والرحمة للخلق، والاحسان إليهم، فإنّ هذه أخلاق الأولياء، وهو أصل من اُصول النجاة والقرب من الله تعالى، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: السخاء شجرة من شجر الجنة من تعلّق بغصن(2) منها فقد نجى.

وقال جبرئيل عليه السلام: قال الله تعالى: هذا دين ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلاّ السخاء وحسن الخلق، فالزموهما ما استطعتم(3).

وقال عليه السلام: جبل الله أولياءه على السخاء وحسن الخلق(4).

وقالوا: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ فقال: السخاء وحسن الخلق، فألزموهما تفوزوا.

____________

1- راجع إحياء العلوم للغزالي 3: 239، حكايات الأسخياء.

2- في "الف": ببعض منها.

3- مجموعة ورام 1: 170.

4- مجموعة ورام 1: 170.


الصفحة 271
وقال صلى الله عليه وآله: الرزق إلى السخي أسرع من السكين إلى ذروة البعير، وانّ الله تعالى يباهي بمطعم الطعام الملائكة(1).

وقال: خلقان يحبهما الله: السخاء وحسن الخلق، وخلقان يبغضهما الله: البخل وسوء الخلق(2). ولقد جمع الله تعالى ذلك في قوله: {ومن يوق شحّ نفسه فاولئك هم المفلحون}(3).

وروي انّ بني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لاموه في كثرة عطائه، فقال: يا بني انّ الله عوّدني أن يمدني وعوّدته أن أجود به على خلقه، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع(4) المادة.

وروي انّه دخل ذات يوم إلى حائط له وفيه عبد لجاره وبين يديه ثلاثة أقراص، فدخل إليه كلب فرمى له بواحد ثم الآخر ثم الآخر، فقال له: هلاّ أكلت منها وأطعمته؟ فقال: انّه غريب جائع فآثرته على نفسي، فقال عبد الله: تلوموني على السخاء وهذا أسخى منّي، ثم اشتراه وأعتقه وملكه الحائط(5).

والعجب لمن يبخل بالدنيا وهي مقبلة فإنّ الجود لا يفنيها، أو هي مدبرة فإنّ البخل لا يبقيها، ولقد أحسن من قال:


إذا جادت الدنيا عليك فجد بهاعلى الناس طراً قبل أن تتفلّت
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلتولا البخل يبقيها إذا هي ولّت

وروي انّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لكميل بن زياد: يا كميل مر أهلك أن يروحوا في المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فوالذي وسع سمعه

____________

1- مجموعة ورام 1: 171.

2- مجموعة ورام 1: 170 نحوه.

3- الحشر: 9.

4- في "ج": فتنقطع.

5- مجموعة ورام 1: 173 نحوه.


الصفحة 272
الأصوات ما من أحد أودع قلباً سروراً الا وخلق الله من ذلك السرور لطفاً، إذا نابته نائبة انحدر عليها كالسيل في انحداره، فيطردها كما يطرد غرائب الابل(1).

وقال عليه السلام: تنافسوا إلى المكارم، وسارعوا إلى الغنائم، واعلموا انّ حوائج الناس اليكم من نعمة الله تعالى(2) عليكم، وأجود الناس من يعطي من لا يرجوه، ومن نفّس عن مؤمن كربة نفّس الله عنه اثنين وسبعين كربة من كرب الدنيا، واثنين وسبعين كربة من كرب الآخرة، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحب المحسنين.

وقال عليه السلام: من تيقّن انّ الله يخلف ما ينفقه لم يمسك عن الانفاق.

وروي انّ الشمس كل يوم تطلع على قرني ملك ينادي: اللهم عجّل لكل منفق خلفاً، ولكل ممسك تلفاً(3).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أكرم الضيف فقد(4) أكرم سبعين نبياً، ومن أنفق على الضيف درهماً فكأنّما أنفق ألف ألف دينار في سبيل الله عزوجل.

وقال أبو عبد الله عليه السلام: أتدري ما الشحيح؟ قلت: هو البخيل، قال: الشح أشد من البخل، انّ البخيل يبخل بما في يده والشحيح على ما في أيدي الناس وعلى ما في يديه حتّى لا يرى في أيدي الناس شيئاً إلاّ تمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام، ولا يشبع ولا ينتفع(5) بما رزقه الله(6).

وللبخيل ثلاث علامات: يخاف من الجوع، ويخاف من سائل يأتيه، ويرحب باللسان مع اخوان الخير، وللسخي ثلاث علامات: العفو بعد القدرة،

____________

1- نهج البلاغة: قصار الحكم 257; عنه البحار 74: 318 ح 82.

2- في "الف" و "ج": من نعمته.

3- كنز العمال 6: 374 ح 16122 نحوه.

4- في "ب": فكأنّما.

5- في "ب" و"ج": يقنع.

6- تحف العقول: 277; عنه البحار 78: 256 ح130.


الصفحة 273
واخراج الزكاة، وحب الصدقات.

وقال النبي صلى الله عليه وآله: لما خلق الله الجنة قالت: يا رب لمن خلقتني؟قال: لكل سخيّ تقيّ، قالت: رضيت يا رب(1).

وقيل: انّ رجلاً سأل الصادق عليه السلام فقال: يا ابن رسول الله ما حد التدبير والتبذير والتقتير؟ فقال: التبذير أن تتصدّق بجميع مالك، والتدبير أن تنفق بعضه، [والتقتير أن لا تنفق من مالك شيئاً](2)، فقال: زدني بياناً يا ابن رسول الله.

[قال:](3) فقبض صلى الله عليه وآله قبضة من الأرض وفرّق أصابعه ثم فتح كفّه فلم يبق في يده شيئاً، فقال: هذا التبذير، ثم قبض قبضة اُخرى وفرّق أصابعه فنزل البعض وبقي البعض فقال: هذا التدبير، ثم قبض قبضة اُخرى وضمّ كفّه حتّى لم ينزل منه شيء فقال: هذا التقتير.

وقال عليه السلام: المؤمن من كان بماله متبرّعاً وعن مال غيره متورّعاً.

وقال عليه السلام: السخاء اسم شجرة في الجنة ترفع يوم القيامة كل سخي إلى الجنة بأغصانها، والبخل اسم شجرة في النار تقود بأغصانها كل بخيل إلى النار(4).

وقال عليه السلام: رأيت على باب الجنة مكتوب: أنت محرمة على كل بخيل ومرائي وعاق ونمّام.

____________

1- عنه مستدرك الوسائل 7: 18 ح 7526; ومعالم الزلفى: 322.

2- أثبتناه من "ج".

3- أثبتناه من "ج".

4- مجموعة ورام 1: 170 نحوه; ومعالم الزلفى: 322.


الصفحة 274

الباب الخامس والأربعون
في سؤال أبي ذر للنبي صلى الله عليه وآله


قال أبوذر رحمة الله عليه: دخلت يوماً على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو في المسجد(1) جالس وحده، فاغتنمت وحدته فقال: يا أباذر انّ للمسجد تحيّة، فقلت: وما تحيّته يا رسول الله؟ فقال: ركعتان، فركعتهما ثم التفتّ إليه فقلت: يا رسول الله أمرتني بالصلاة فما حدّ الصلاة؟ قال: خير موضوع فمن شاء أقلّ ومن شاء أكثر.

فقلت: يا رسول الله أيّ الأعمال أحب إلى الله تعالى، قال: الايمان بالله، ثم الجهاد في سبيله، قلت: يا رسول الله أيّ المؤمنين أكمل ايماناً؟ قال: أحسنهم خلقاً، قلت: فأيّ المؤمنين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، قلت: فأيّ الهجرة أفضل؟ قال: من هجر السوء، قلت: فأيّ [وقت من](2) الليل أفضل؟ قال: جوف الليل الغابر.

____________

1- في "الف" و "ج": المجلس.

2- أثبتناه من "ج".


الصفحة 275
قلت: أيّ الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قلت: أيّ الصدقة أفضل؟ قال: جهد من مقلّ إلى فقير في سرّ، قلت: فما الصوم؟ قال: فرض مجز وعند الله أضعاف ذلك، قلت: فأيّ الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها، قلت: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده واهرق دمه.

قلت: فأيّ آية أنزلها عليك أفضل وأعظم؟ قال: آية الكرسي، قلت: يا رسول الله ما كانت صحف ابراهيم عليه السلام؟ قال: كانت أمثالاً كلّها، أيّها الملك المغرور المسلّط المبتلى انّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عنّي دعوة مظلوم فانّي لا أردّها وان كانت من كافر أو فاجر ففجوره على نفسه.

وكان فيها أمثالاً، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يفكّر في صنع الله عزوجل، وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدّم وأخّر، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال في المطعم والمشرب.

وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلاّ في ثلاث: تزوّد لمعاد، أو مرمّة(1) لمعاش، أو لذّة في غيرِ ذات محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه.

قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى عليه السلام؟ قال: كانت عبراً كلها، عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجباً لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجباً لمن أبصر الدنيا وتقلّبها بأهلها حال بعد حال ثم هو يطمئنّ إليها، عجباً لمن أيقن بالحساب غداً ثم لم يعمل، قلت: يا رسول الله فهل في الدنيا(2) شيء مما كان في

____________

1- في "ج": سعي.

2- في "ج": في أيدينا.


الصفحة 276
صحف ابراهيم وموسى مما أنزل الله عليك؟

قال: اقرأ يا أباذر: {قد أفلح من تزكّى * وذكر اسم ربه فصلّى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى * انّ هذا ـ يعني ذكر هذه الأربع آيات ـ لفي الصحف الاُولى * صحف ابراهيم وموسى}(1).

قلت: يا رسول الله أوصني، قال: اُوصيك بتقوى الله فانّه رأس أمرك كله، قلت: يا رسول الله زدني، قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فانّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض، قلت: يا رسول الله زدني، قال: عليك بالجهاد فانّه رهبانيّة اُمّتي، قلت: يا رسول الله زدني، قال: عليك بالصمت إلاّ من خير فانّه مطردة للشيطان عنك، وعون لك على أمر دينك.

قلت: يا رسول الله زدني، قال: ايّاك وكثرة الضحك فانّه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه، قلت: يا رسول الله زدني، قال: انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك، فانّه أجدر أن لا تزدري نعمة الله تعالى عليك، قلت: يا رسول الله زدني، قال: صل قرابتك وان قطعوك، وحب المساكين وأكثر مجالستهم.

قلت: يا رسول الله زدني، قال: لا تخف في الله لومة لائم، قلت: يا رسول الله زدني، قال: يا أباذر ليردك عن الناس ما تعرف من نفسك، ولا تجد عليهم فيما تأتي، وكفى بالرجل عيباً أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه، ويجد عليهم فيما يأتي، قال: ثم ضرب على صدري وقال: يا أباذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق(2).

وعن أبي عبد الله عليه السلام انّه قال: في خطبة أبي ذر رضي الله عنه: يا مبتغي العلم لا تشغلك الدنيا ولا أهل ولا مال عن نفسك، أنت يوم تفارقهم كضيف

____________

1- الأعلى: 19-14.

2- مجموعة ورام 2: 67; وكنز العمال 16: 131 ح 44158; وأورده في أعلام الدين: 204.


الصفحة 277
بتّ فيهم ثم غدوت عنهم إلى غيرهم، الدنيا والآخرة كمنزل تحوّلت منه إلى غيره، وما بين البعث والموت إلاّ كنومة نمتها ثم استيقظت منها، يا جاهل تعلّم العلم فإنّ قلباً ليس فيه علم كالبيت الخراب الذي لا عامر له(1).

وعن أبي ذر رحمة الله عليه قال: يا باغي العلم قدّم لمقامك بين يدي الله عزوجل فانّك مرتهن بعملك كما تدين تدان، يا باغي العلم صلّ قبل أن لا تقدر على ليل ولا نهار تصلّي فيه، انّما مثل الصلاة لصاحبها كمثل رجل دخل على ذي سلطان فأنصت إليه حتّى فرغ من حاجته، فكذلك المرء المسلم باذن الله تعالى ما دام في الصلاة، لم يزل الله عزوجل ينظر إليه حتّى يفرغ من صلاته.

يا باغي العلم تصدّق قبل أن لا تقدر تعطي شيئاً ولا تمنعه، انّما مثل الصدقة لصاحبها مثل رجل طلبه قوم بدم فقال لهم: لا تقتلوني واضربوا لي أجلاً أسعى في رضاكم، كذلك المرء المسلم باذن الله كلّما تصدّق بصدقة حلّ بها عقدة من رقبته حتّى يتوفّى الله أقواماً وهو عنهم راض، ومن رضى الله عزوجل عنه فقد اُعتق من النار.

يا باغي العلم انّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شرّ، فاختم على فمك كما تختم على ذهبك وورقك(2)، يا باغي العلم انّ هذه الأمثال ضربها الله عزوجل للناس [وقال:](3) {وما يعقلها الا العالمون}(4).

يا باغي العلم كأنّ شيئاً من الدنيا لم يكن إلاّ عمل ينفع خيره ويضرّ شرّه إلاّ ما رحم الله عزوجل، يا باغي العلم لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك فلن يغنوا عنك شيئاً(5).

____________

1- مجموعة ورام 2: 69.

2- في "الف": رزقك.

3- أثبتناه من "ج".

4- العنكبوت: 43.

5- مجموعة ورام 2: 66 بحذف الأخير; وفي أعلام الدين: 207.


الصفحة 278

الباب السادس والأربعون
في الولاية لله تعالى


قال الله تعالى: {ألا انّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}(1).

فولاية الله معرفته ومعرفة نبيّه صلى الله عليه وآله، ومعرفة الأئمة من أهل بيته عليهم السلام، وموالاتهم وموالاة كافّة أولياء الله، [والمعاداة في الله](2) ومعاداة أعداء الله وأعداء رسوله وأهل بيته، والتبري من كل من لم يدن لهم بدين الإسلام.

وأعظم عرى الايمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، ولا طريق إلى ذلك إلاّ بعد المعرفة لهم، وإذا لم يعرف أولياء الله فيواليهم وأعداء الله فيعاديهم، لا يأمن أن يعادي لله وليّاً أو يوالي لله عدوّاً، فيخرج بذلك عن طريق الولاية بل عن الايمان، وما من شيء من ذلك إلاّ وعليه دلالة من كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله، وشرح ذلك مذكور في كتب العلم.

وينبغي للعاقل الالتزام بعرى الايمان، والتحلّي بحلية أهل الولاية، فمن أراد

____________

1- يونس: 62.

2- أثبتناه من "ب".


الصفحة 279
ذلك فليلزم لسانه الذكر، وقلبه الفكر، ويعتزل أهل الدنيا ويجالس الصالحين من أهل العلم، ويتبع آثار الصالحين، ويقتدي بهداهم من الرفض للدنيا، ويقنع من العيش بما حضر.

ويتقرب إلى الله بصالح القربات من صلاة النوافل، والبرّ بالاخوان، وقضاء حوائجهم وصلتهم، والايثار على نفسه بما يقدر عليه، وصيام الأوقات المندوب إليها، وصيانة بطنه عن الحرام، ولسانه عن فضول الكلام، وليعلم انّ الله يتولاّه، فانّه تعالى قال: {وهو يتولّى الصالحين}(1)، فحينئذ لا يكله إلى نفسه بل يتولّى عنايته وحوائجه.

وقال سبحانه: فليأذن بحرب منّي من آذى عبدي المؤمن، أو أخاف لي وليّاً(2).

وقال سبحانه: ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته(3).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة ينادي المنادي: أين المؤذون لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم، فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم [العداوة](4) وعاندوهم وعنّفوهم في دينهم، ثم يؤمر بهم إلى جهنّم(5).

وقال عليه السلام: من حقّر مؤمناً لم يزل الله عزوجل له حاقراً حتّى يرجع عن محقرته ايّاه(6).

____________

1- الأعراف: 196.

2- الكافي 2: 350 ح 1; عنه البحار 75: 152 ح 22 نحوه.

3- المحاسن 1: 454 ح 449; عنه البحار 87: 31 ح 15.

4- أثبتناه من "ج".

5- الكافي 2: 351 ح 2; عنه البحار 75: 154 ح 23.

6- الكافي 2: 351 ح 4; عنه البحار 75: 157 ح 26.


الصفحة 280
وقال: أيّما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه وهو قادر عليه من عنده أو من عند غيره أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وآله فيؤمر به إلى النار(1).

وعن أبي عبد الله عليه السلام: من ردّ أخاه المؤمن عن حاجة وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه ثعباناً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة(2).

وقال عليه السلام: من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله عزوجليوم لا ظلّ إلاّ ظلّه(3).

وقال عليه السلام: من حبس حق المؤمن أقامه الله يوم القيامة خمسمائة عامحتّى يسيل عرقه ودمه، وينادي مناد من عند الله عزوجل: هذا الظالم الذي حبس عن الله عزوجل حقه، فيوبّخ أربعين يوماً ويؤمر به إلى النار(4).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: من روّع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروهاً فأصابه(5) فهو في النار، ومن روّع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروهاً فأصابه فهو مع فرعون وآل فرعون في النار، ومن أعان على مؤمن بشطر كلمة لقى الله عزوجل يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله عزوجل(6).

وقال عليه السلام: من علامة شرك الشيطان الذي لا شك فيه أن يكون الرجل فحّاشاً لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه، فانّه لعب به(7).

____________

1- الكافي 2: 367 ح 1; عنه البحار 75: 177 ح 16.

2- الكافي 2: 367 ح 4; عنه البحار 75: 179 ح 19.

3- الكافي 2: 368 ح 1; عنه البحار 75: 151 ح 19; ومجموعة ورام 2: 209.

4- الكافي 2: 367 ح 2; عنه البحار 75: 178 ح 17.

5- زاد في "ج": ولم يصبه.

6- الكافي 2: 368 ح 3-2; عنه البحار 75: 151 ح 21-20.

7- الكافي 2: 323 ح 1.


الصفحة 281
وباسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: انّ الله حرّم الجنّة على كل فحّاش بذيّ قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه(1).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: انّ من شرار عبيد الله من تكره مجالسته لفحشه(2).

وقال الصادق عليه السلام: من خاف الناس لسانه فهو في النار(3).

وباسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أشرّ الناس يوم القيامة الذين يُكْرَمُونَ اتقاء شرّهم(4).

وينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور عند الهزاهز، صبور على البلايا، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحة، والولي كل الولي من توالت أقواله وأفعاله على موافقة الكتاب والسنّة، ومن كان هكذا تولّى الله سياسته(5)باللطف في كل اُموره، وحرسه في غيبته وحضوره، وحفظه في أهله وولده وولد ولده وفي جيرانه، فانّه جاء في الحديث النبوي: انّ الله يحفظ الرجل في ولده وولد ولده ودويرات حوله.

وجاء في تأويل قوله: {وكان أبوهما صالحاً}(6) انّه كان بينهما وبين أبيهما الصالح سبعة أجداد، وقيل: سبعين جداً.

والولي ريحانة الله في أرضه يشمّها المؤمنون، ويشتاق إليها الصالحون، وعلامة الولي ثلاثة أشياء: شغله بالله، وهمّه لله، وفراره إلى الله، وإذا أراد الله أن

____________

1- الكافي 2: 323 ح 3; عنه البحار 63: 206 ح 39.

2- الكافي 2: 325 ح 8; البحار 75: 281 ح 9.

3- الكافي 2: 327 ح 3; عنه البحار 75: 283 ح 11.

4- الكافي 2: 327 ح 4; عنه البحار 75: 283 ح 12.

5- في "ج": سيئاته.

6- الكهف: 82.


الصفحة 282
يوالي عبداً فتح على لسانه ذكره، وعن قلبه قفل فكره، فإذا استلذّ الذكر فتح له باب القرب، ثم فتح عليه باب الاُنس به والوحشة من خلقه، فأجلسه على كرسي الولاية، وعامله بأسباب العناية، وأورثه دار الكرامة، وكشف عن قلبه وبصره غشاوة العماية، فأصبح ينظر بنور الله.

ورفع عنه حزن الرزق، وخوف العدوّ من حيث يحلّ التوكل في قلبه، والرضى بقسمه، ولهذا قال الله تعالى: {ألا انّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}(1) وأمن من أهوال يوم القيامة ونار جهنّم.

____________

1- يونس: 62.


الصفحة 283

الباب السابع والأربعون
فيه من كلام أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام


قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخّر التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن اُعطى لم يشبع، وإن منع لم يقنع، يعجز عن شكر ما اُوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي.

يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت له، إن سقم ظلّ نادماً، وإن صحّ أمن لاهياً، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي، إن أصابه بلاء دعا مضطراً، وإن أصابه(1) رجاء أعرض مغتراً.

تغلبه نفسه على ما يظنّ ولا يغلبها على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، ويرجو لنفسه بأكثر من عمله، إن استغنى بطر وقتر، وإن افتقر قنط ووهن، يقصر إذا عمل، ويبالغ إذا سأل، إن عرضت له شهوة أسلف المعصية

____________

1- في "ج": ناله.


الصفحة 284
وسوّف التوبة، وإن عرته محنة انفرج عن شرائط الملّة.

يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتّعظ، فهو بالقول مدل ومن العمل مقلّ، ينافس فيما يفنى، ويسامح فيما يبقى، يرى المغنم مغرماً والغرم مغنماً، يخشى الموت ولا يبادر الفوت، يستعظم من معصية غيره ما يستقلّ أكثر منه من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على الناس طاعن، ولنفسه مداهن.

اللغو مع الأغنياء أحبّ إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه ولا يحكم عليها لغيره، يرشد غيره ويغوي نفسه، فهو يطاع ويعصي، ويستوفي ولا يوفي، ويخشى الخلق في غير ربّه ولا يخشى ربّه في خلقه(1).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: يا نوف خلقنا من طينة وخلق شيعتنا من طينتنا، فإذا كان يوم القيامة اُلحقوا بنا، قال نوف: قلت: صف لي شيعتك يا أمير المؤمنين.

فبكى لذكر شيعته ثمّ قال: يا نوف شيعتي والله الحلماء العلماء بالله ودينه، العاملون بطاعته وأمره، المهتدون بحبّه، أنصار عباده(2)، أحلاس(3) زهادة، صفر الوجوه من التهجد، عمش العيون من البكاء، ذبل الشفاة من الذكر، خمص البطون من الطوى، تعرف الربانية في وجوههم، والرهبانية في سمتهم.

مصابيح كلّ ظلمة، ورياحين كلّ قبيلة، لا يثنون من المسلمين سلفاً، ولا تقفون لهم خلفاً، شرورهم مكنونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، أنفسهم منهم في عناء والناس منهم في راحة، فهم الكاسة

____________

1- نهج البلاغة: قصار الحكم 150; عنه البحار 72: 199 ح30.

2- في أمالي الطوسي والبحار: "أنضاء عبادة"، والنضو: المهزول من الابل وغيرها.

3- هكذا في أمالي الطوسي والبحار، وهو الصحيح، وفي النسخ: جلاّس زهادة، والحلس: كساء يلي ظهر البعير تحت القتب، ملازم له، فقيل لكلّ ملازم لشيء: هو حِلْسُهُ.