الصفحة 184
مجيباً، ياابن عمران! كذب من يقول(1) انّه يحبني وإذا جنّه الليل نام عنّي(2).

وروي عن المفضل بن صالح قال: قال لي مولاي الصادق عليه السلام: يا مفضل انّ لله تعالى عباداً عاملوه بخالص من سرّهم فقابلهم(3) بخالص من برّه، فهم الذين تمرّ صحفهم يوم القيامة فرغاً، فإذا وقفوا بين يديه ملأها لهم من سرّ ما أسرّوا إليه، فقلت: وكيف ذلك يا مولاي؟ فقال: أجلّهم أن تطّلع الحفظة على ما بينه وبينهم(4).

وفي هذا دلالة على انّ الإخفاء بها أفضل من الإجهار بها، وقول النبي صلى الله عليه وآله: "خير العبادة أخفاها، وخير الذكر الخفي" وقوله عليه السلام: "صلاة السر تزيد على الجهر بسبعين ضعفاً"، ومدح الله تعالى زكريا إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً، وقال سبحانه: {واذكر ربّك تضرّعاً وخيفة ودون الجهر من القول}(5)وهذا صريح في فضل إخفائها.

وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله قوماً يرفعون أصواتهم بالدعاء، فقال: على رسلكم انّما تدعون سميعاً بصيراً حاضراً معكم(6).

وما ورد من استحباب الجهر في صلاة الليل فانّه يختصّ بالقراءة دون الدعاء، واعلم انّ كيفيّة رفع اليدين في الصلاة أن تكونا مبسوطتين تحاذي صدر الإنسان.

[وعن سعدبن يسار قال:](7) قال الصادق عليه السلام: هكذا الرغبة ـ وأبرز

____________

1- في "ج": زعم.

2- البحار 13: 361 ح78; عن عدة الداعي.

3- في "ج": فعاملهم.

4- عنه البحار 70: 252 ح7; ومعالم الزلفى: 247.

5- الأعراف: 205.

6- البحار 93: 343 ح12 نحوه.

7- أثبتناه من "ب".


الصفحة 185
باطن كفّيه إلى السماء ـ وقال: هكذا الرهبة ـ وجعل ظهرهما إلى السماء ـ وقال: هكذا التضرّع ـ وحرّك اصبعيه السبابتين يميناً وشمالاًـ وقال: هكدا التبتل ـ ورفع اصبعيه ووضعهما ـ وقال: هكذا الابتهال ـ ومدّ يديه تلقاء وجهه إلى القبلة ـ وقال: من ابتهل منكم فمع الدمعة يجريها على خديه، وان لم يبك فليتباك، ومن لم يستطع أن يصلّي قائماً فليصلّي قاعداً(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: من استغفر الله في السحر سبعين مرّة كان من الذين قال الله فيهم: {والمستغفرين بالأسحار}(2).

وقال: من قرأ في ليلة سبعين آية لم يكن من الغافلين.

وقال بعضهم: لئن أبيت نائماً وأصبح نادماً خير من أن أبيت قائماً واُصبح معجباً(3).

وقرّب رجل من بني اسرائيل قرباناً فلم يُقبل منه، فرجع وهو يلوم نفسه ويقول لها: يا نفس هذا منك ومن قبلك اُتيت، فنودي: انّ مقتك لنفسك خير من عبادة مائة ألف سنة(4).

وقال بعض الصالحين: نمت ذات ليلة عن وردي فسمعت هاتفاً يقول: أتنام عن حضرة الرحمن، وهو يقسم جوائز الرضوان بين الأحبة والخلاّن، فمن أراد منّا المزيد فلا ينام ليله الطويل، ولا يقنع من نفسه لها بالقليل(5).

ويستحب أن لا تكون يده تحت ثيابه، فقد ذكر بعض الصالحين انّه دعا وإحدى يديه بارزة والاُخرى تحت ثيابه، فرآى في نومه البارزة مملوءة نوراً

____________

1- الكافي 2: 480 ح3 باختلاف.

2- آل عمران: 17.

3- أورده المصنف في أعلام الدين: 264.

4- أورده المصنف في أعلام الدين: 264.

5- أورده المصنّف في أعلام الدين: 281.


الصفحة 186
والاُخرى ليس فيها شيء، فسأل في نومه عن سبب ذلك، فقيل له: لو أبرزتها لاُمليت(1) نوراً، فحلف أن لا يعود إلى ذلك أبداً.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لقارئ القرآن في الصلاة قائماً بكل حرف يقرأه مائة حسنة، وقاعداً خمسون حسنة(2)، ومتطهراً في غير صلاة خمسة وعشرون حسنة، وعلى غير طهارة عشر حسنات، اما أنا لا أقول المزيد له بالألف عشر، وباللام عشر، وبالميم عشر، وبالراء عشر(3).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال تعالى: من أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني، ومن توضّأ ولم يصلّ ركعتين فقد جفاني، ومن صلّى ركعتين ولم يدعني فقد جفاني، ومن أحدث وتوضّأ ودعا ولم اُجبه فقد جفوته ولست برب جاف(4).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اتخذوا المساجد بيوتاً، وعوّدوا قلوبكم الرقة(5)، واكثروا من التفكر والبكاء من خشية الله تعالى، وكونوا في الدنيا أضيافاً، واكثروا من الذكر(6).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما فرغ امرء فرغة(7) إلاّ كانت عليه حسرة يوم القيامة(8).

وقال: ان امرء ضيّع من عمره ساعة في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته يوم القيامة(9).

____________

1- في "ب" و"ج": لامتلأت.

2- في "ب": خمسة وخمسون حسنة.

3- الوسائل 4: 848 ح3; عن عدة الداعي.

4- عنه البحار 80: 308 ح18.

5- في "ج": الرأفة.

6- البحار 73: 81 ح43; عن كنز الكراجكي.

7- في "ج": ما فزع امرء فزعة.

8- عنه معالم الزلفى: 245.

9- عنه معالم الزلفى: 245.


الصفحة 187
وقال صلى الله عليه وآله: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ(1).

وأبلغ من هذا الكلام وأفصح قول الله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون}(2) وان كان مندوباً إليه فانّه في جنب الذكر خسارة، لأنّ الربح القليل في جنب الكثير خسارة.

وقال النبي صلى الله عليه وآله: ليكن لسان أحدكم رطباً من ذكر ربه.

وقال الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً}(3).

وقال سبحانه: {فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلاّ الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم}(4). وقد أمرنا بالذكر في كتابه.

____________

1- مجموعة ورام 1: 279.

2- المنافقون: 9.

3- الكهف: 28.

4- النجم: 29-30.


الصفحة 188

الباب الرابع والعشرون
في البكاء من خشية الله


عن أبي عبدالله عليه السلام قال: أوحى الله إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى هب لي من عينيك الدموع، ومن قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، واكحل عينيك بميل الحزن إذا ضحك البطّالون، وقم على قبور الأموات فنادهم برفيع صوتك لعلّك تأخذ موعظتك منهم، وقل انّي لاحق في اللاحقين(1).

وقال علي عليه السلام: البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة، [وعلي بن الحسين](2)، فاما آدم فانّه بكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية، وبكى يعقوب على يوسف حتّى ذهب بصره، وبكى يوسف على يعقوب حتّى تأذّى به أهل السجن فقالوا: امّا تبكي بالليل وتسكت بالنهار، أو تسكت بالليل وتبكي بالنهار.

وبكت فاطمة عليها السلام على فراق رسول الله صلى الله عليه وآله حتّى

____________

1- أمالي الطوسي: 12 ح 15 مجلس1; عنه البحار 14: 320 ح 24.

2- في "ألف"و "ب": يحيى بن زكريا، وأثبتنا ما بين المعقوفتين من "ج" والخصال.


الصفحة 189
تأذّى أهل المدينة، فكانت تخرج إلى البقيع فتبكي فيه، وبكى علي بن الحسين عليه السلام عشرين سنة، وما رأوه آكلاً ولا شارباً إلاّ وهو يبكي، فلاموه في ذلك فقال: انّي لم أذكر مصارع أبي وأهل بيتي إلاّ وخنقتني العبرة(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: انّ لله عباداً كسرت قلوبهم من خشية الله فأسكتهم عن النطق، وانّهم لفصحاء ألبّاء نبلاء، يستبقون إليه بالأعمال الصالحة الزكيّة، لا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون له القليل، يرون في أنفسهم انّهم أشرار وانّهم لأكياس أبرار(2).

وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: يا موسى ما تزيّن اليّ المتزيّنون بمثل الزهد في الدنيا، وما تقرّب اليّ المتقرّبون بمثل الورع من خشيتي، وما تعبّد اليّ المتعبّدون بمثل البكاء من خيفتي.

فقال موسى: يا رب بما تجزيهم على ذلك؟ فقال: اما المتزيّنون بالزهد فانّي اُبيحهم جنّتي، واما المتقرّبون بالورع عن محارمي فانّي أنحلهم(3) جناناً لا يشركهم فيها غيرهم، واما البكّاؤون من خيفتي فانّي افتّش الناس ولا افتّشهم حياءً منهم(4).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي عليك بالبكاء من خشية الله، يُبنى لك بكل قطرة ألف بيت في الجنة(5).

وقال عليه السلام: لو انّ باكياً بكى في امّة لرحم الله تلك الاُمة لبكائه(6).

وقال عليه السلام: إذا احب الله عبداً نصب في قلبه نائحة من الحزن، فإنّ الله

____________

1- الخصال: 272 ح15; عنه البحار 82: 86 ح 33; وروضة الواعظين: 450.

2- البحار 69: 286 ح 21.

3- في "ب" و"ج": اُدخلهم.

4- البحار 13: 349 ح 37; عن ثواب الأعمال باختلاف.

5- عدة الداعي: 171; عنه البحار 93: 334 ح 25.

6- البحار 93: 331 ح 14; عن ثواب الأعمال.


الصفحة 190
تعالى يحب كل قلب حزين، وإذا أبغض الله عبداً نصب له في قلبه مزماراً من الضحك، وما يدخل النار من بكى من خشية الله حتّى يعود اللبن إلى الضرع، ولن يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مؤمن أبداً(1).

وقال عليه السلام: البكاء من خشية الله يطفئ بحاراً من غضب الله.

وقد وبّخ الله تعالى على ترك البكاء عند استماع القرآن عند قوله: {أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون}(2). ومدح الذين يبكون عند استماعه بقوله: {وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين}(3).

وقال عليه السلام: لكل شيء كيل أو وزن إلاّ البكاء فإنّ الدمعة تطفئ بحاراً من النار(4).

وروي انّ بعض الأنبياء اجتاز بحجر ينبع منه ماء كثير، فعجب من ذلك، فسأل الله انطاقه، فقال له: لِمَ يخرج منك الماء الكثير مع صغرك؟ فقال: بكائي من حيث سمعت الله يقول: {ناراً وقودها الناس والحجارة}(5) وأخاف أن أكون من تلك الحجارة. فسأل الله تعالى أن لا يكون من تلك الحجارة، فأجابه الله وبشّره النبي بذلك، ثم تركه ومضى ثم عاد إليه بعد وقت فرآه ينبع كما كان، فقال: ألم يؤمنك الله؟ فقال: بلى، فذلك بكاء الحزن وهذا بكاء السرور(6).

وروي انّ يحيى بن زكريا عليه السلام بكى حتّى أثّرت الدموع في خديه،

____________

1- عنه مستدرك الوسائل 11: 245 ح 12885.

2- المائدة: 83.

3- المائدة: 83.

4- البحار 93: 331 ح 14; عن ثواب الأعمال.

5- التحريم: 6.

6- عنه مستدرك الوسائل 11: 246 ح 12886.


الصفحة 191
وعملت له امه لباداً على خدّيه تجري عليه الدموع(1).

وقال الحسين عليه السلام: ما دخلت على أبي قط إلاّ وجدته باكياً(2).

وقال: انّ النبي صلى الله عليه وآله بكى حين وصل أبي في قراءته عليه السلام: {فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}(3).

فانظروا إلى الشاهد كيف يبكي والمشهود عليهم يضحكون، والله لولا الجهل ما ضحكت سنّ، فكيف يضحك من يصبح ويمسي ولا يملك نفسه، ولا يدري ما يحدث عليه من سلب نعمة أو نزول نقمة أو مفاجأة منيّة، وأمامه يوم يجعل الولدان شيباً، تشيب الصغار وتسكر الكبار، وتوضع ذوات الأحمال، ومقداره في عظم هوله خمسون ألف سنة، فانّا لله وانّا إليه راجعون.

اللهم أعنّا على هوله، وارحمنا فيه، وتغمّدنا برحمتك التي وسعت كل شيء، ولا تؤيسنا من روحك(4)، ولا تحل علينا غضبك، واحشرنا في زمرة نبيك محمد وأهل بيته الطاهرين صلواتك عليه وعليهم أجمعين.

وقال النبي صلى الله عليه وآله: ما من مؤمن يخرج من عينيه مثل رأس الذبابة من الدموع فيصيب حرّ وجهه إلاّ حرّمه الله على النار(5).

وقال صلى الله عليه وآله: لا ترى النار عين بكت من خشية الله، ولا عين سهرت في طاعة الله، ولا عين غُضّت عن محارم الله(6).

وقال صلى الله عليه وآله: ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دمع خرجت من خشية الله، ومن قطرة دم سفكت في سبيل الله، وما من عبد بكى من خشية الله

____________

1- البحار 93: 333 ح 24 نحوه.

2- عنه مستدرك الوسائل 11: 245 ح 12885.

3- النساء: 41.

4- في "ب": رحمتك.

5- عنه مستدرك الوسائل 11: 246 ح 12887.

6- عنه مستدرك الوسائل 11: 246 ح 12888.


الصفحة 192
إلاّ سقاه الله من رحيق رحمته، وأبدله الله ضحكاً وسروراً في جنّته، ورحم الله من حوله ولو كانوا عشرين ألفاً. وما اغرورقت عين من خشية الله إلاّ حرم الله جسدها على النار، وان أصابت وجهه لم يرهقه قتر ولا ذلّة، ولو بكى عبد في امة لنجّى الله تلك الاُمة ببكائه(1).

وقال صلى الله عليه وآله: من بكى من ذنب غفر له(2)، ومن بكى خوف النار أعاذه الله منها، ومن بكى شوقاً إلى الجنة أسكنه الله فيها، وكتب له الأمان من الفزع الأكبر، ومن بكى من خشية الله حشره الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً(3).

وقال عليه السلام: البكاء من خشية الله مفتاح الرحمة، وعلامة القبول، وباب الاجابة(4).

وقال عليه السلام: إذا بكى العبد من خشية الله تتحات عنه الذنوب كمايتحاتّ الورق، فيبقى كيوم ولدته امه(5).

____________

1- عنه مستدرك الوسائل 11: 246 ح 12889.

2- في "ب": غفر الله له.

3- عنه مستدرك الوسائل 11: 247 ح 12890.

4- عنه مستدرك الوسائل 5: 207 ح 5707 و12891.

5- عنه مستدرك الوسائل 11: 247 ح 12892.


الصفحة 193

الباب الخامس والعشرون
في الجهاد في سبيل الله


قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا}(1).

وقال سبحانه: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم واولئك لهم الخيرات واولئك هم المفلحون}(2).

وقال سبحانه: {انّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بانّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم}(3).

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله انّه قال: للجنة باب يقال له باب المجاهدين، يدخلون منه والملائكة تترحّب بهم، وأهل الجمع ينظرون إليهم بما

____________

1- العنكبوت: 69.

2- التوبة: 88.

3- التوبة: 111.


الصفحة 194
أكرمهم الله، وأعظم الجهاد جهاد النفس لأنّها أمّارة بالسوء، راغبة بالشر، ميّالة إلى الشهوات، متثاقلة بالخيرات، كثيرة الأمال، ناسية الأهوال، محبّة للرئاسة، وطالبة للراحة.

قال الله تعالى: {انّ النفس لأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي}(1).

وقال عليه السلام: من أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، ومن أراد صلاح حاله ومجاهدة(2) نفسه فليجعل دأبه مجاهدة النفس عند كل حال، لا يخالف فيه كتاب الله وسنة نبيه وسنن الأئمة من أهل بيته وآدابهم.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلاّ ونفسه عنده ظنون، يعني يتهمها ويزري عليها(3).

قيل: انّ رجلاً في زمان بني اسرائيل نام عن صلاة الليل، فلمّا انتبه لام نفسه، فقال: هذا منك وبطريقك وتفريطك حرمت عبادة ربي، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام: قل لعبدي هذا: اننّي قد جعلت لك ثواب مائة سنة بلومك لنفسك.

وينبغي للعاقل مجاهدة نفسه على القيام بحقوق الله وسلوك طريق السلامة، فإنّ الله تعالى قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا}(4) ومن أراد السلامة من الشيطان فليجاهد نفسه ويحاسبها محاسبة الشريك لشريكه، ولقد أحسن أبوذر في قوله: ما وهب الله لامرء(5) هبة أحسن من أن يلزمه زاجراً من نفسه يأمره وينهاه.

ومن مجاهدة النفس انّ الإنسان لا يأكل الا عند الحاجة، ولا ينام الا عند غلبة النوم، ولا يتكلّم الا عند الضرورة، وبالجملة يقمعها عن الهوى، كما قال

____________

1- يوسف: 53.

2- في "ج": سلامة.

3- البحار 73: 85 ح 48; عن عدة الداعي.

4- العنكبوت: 69.

5- في "ج": لعبد.


الصفحة 195
تعالى: {واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإنّ الجنة هي المأوى}(1)واعلموا انّ المجاهدة تعقب الراحة.

____________

1- النازعات: 40-41.


الصفحة 196

الباب السادس والعشرون
في مدح الخمول والاعتزال


اعلم انّ جماع الخير كله واحرازه في الوحشة من الناس والعزلة عنهم، فإنّ بالعزلة يتحصل(1) الاخلاص، وينسد عنه باب الغيبة والنميمة ولغو القول، وسلامة النظر والسمع لمن لا يجوز، والوحشة من الناس علامة الاُنس بالله، والعزلة من امارات الوصلة.

وروى سفيان الثوري قال: قصدت جعفر بن محمد عليهما السلام فأذن لي بالدخول، فوجدته في سرداب ينزل اثنى عشر مرقاة، فقلت: يا ابن رسول الله أنت في هذا المكان مع حاجة الناس إليك، فقال: يا سفيان فسد الزمان، وتنكر الاخوان، وتقلبت الأعيان، فاتخذنا الوحدة سكناً، أمعك شيء تكتب؟ قلت: نعم، فقال: اكتب:


لا تجزعنّ لوحدة وتفرّدومن التفرّد في زمانك فازدد
فسد الإخاء فليس ثَمّ اخوّةالا التملّق باللسان وباليد

____________

1- في "ب" و"ج": يحصل.


الصفحة 197

وإذا نظرت جميع ما بقلوبهمأبصرت ثَمّ نقيع سم الأسود
[فإذا فتشت ضميره عن قلبهوافيت عنه مرارة لا تنفد(1)](2)

والعزلة في الحقيقة اعتزال الاُمور الذميمة، والذي حصل علوم معارفه وعمله ثم اعتزل بني أمره على أساس ثابت، وينبغي لصاحب العزلة الاشتغال بذكر ربه، والفكر في صنائعه، وإلاّ أوقعته خلوته في بليّة وفتنة، ويكون أيضاً عنده قوّة في العلم تدفع عنه هواجس الشيطان ووساوسه، ولا شك انّ خير الدنيا والآخرة في العزلة والتقليل عن علق الدنيا، وشرّها في الكثرة والاختلاط بالناس، والخمول رأس كل خير.

وقال بعضهم: رأيت بعض الأئمة عليهم السلام في النوم يقول: الخمول نعمةوكل يأباه، والترفّع نقمة وكل يترجّاه، والغنى فتنة وكل يتمنّاه، والفقر عصمة وكل يتجافاه، والمرض حطّة للذنوب وكل يتوقّاه، والمرء لنفسه ما لم يُعرف فإذا عُرف صار لغيره.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد: تبدل ولا تشهر، ووار شخصك ولا تذكر، وتعلّم واعمل، واسكت تسلم، تسر الأبرار وتغيظ الفجار، ولا عليك إذا علمت معالم دينك أن لا تعرف الناس ولا يعرفوك(3).

ومن ألزم قلبه الفكر، ولسانه الذكر، ملأ الله قلبه ايماناً ورحمة ونوراً وحكمة، انّ الفكر والاعتبار يخرجان من قلب المؤمن عجائب المنطق في الحكمة، وتسمع له أقوال يرضاها العلماء، وتخشع لها العقلاء، وتعجب منها الحكماء.

وروي انّ رجلاً سأل ام اُويس: من أين لابنك هذه الحال العظيمة التي قد

____________

1- أثبتناه من "ب" و"ج"، وجاء المصرع الثاني في "ب": وافيت منه نقيع سم الأسود.

2- عنه مستدرك الوسائل 11: 390 ح 13344.

3- عنه مستدرك الوسائل 11: 391 ح 13345; ونحوه في البحار 2: 37 ح51.


الصفحة 198
مدحه النبي صلى الله عليه وآله بها مدحاً لم يمدح به أحداً من أصحابه هذا فلم يره(1)؟ فقالت: انّه من حيث بلغ اعتزلنا وكان يأخذ في الفكر والاعتبار.

وروي انّ الله أوحى إلى موسى عليه السلام: من أحب حبيباً آنس به، ومن آنس بحبيب صدّق قوله ورضي فعله، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه، ومن اشتاق إلى حبيب جدّ في السير إليه، يا موسى ذكري للذاكرين، وزيارتي للمشتاقين، وجنّتي للمطيعين، وأنا خاصّة المحبين(2)(3).

وروى كعب الأحبار قال: أوحى الله إلى بعض الأنبياء: إن أردت لقائي غداً في حظيرة القدس فكن في الدنيا غريباً محزوناً مستوحشاً كالطير الوحداني الذي يطير في الأرض المقفرة، ويأكل من الأشجار المثمرة، فإذا كان الليل آوى إلى وكره، ولم يكن مع الطير استيحاشاً من الناس واستيناساً بربه(4).

ومن اعتصم بالخلوة وآنس بها فقد اعتصم بالله، ومكابدة العزلة والصبر عليهاأيسر من سوء عاقبة مخالطة الناس، والوحدة طريقة الصدّيقين، وعلامة الافلاس القرب من الناس، ومخالطة الناس فتنة في الدين عظيمة، لأنّ من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راياهم وداهنهم وراقبهم.

ولا يصح مولاة الله ومراقبة الناس ومراياهم، ومن أراد أن يسلم له دينه ويستريح بدنه وقلبه فليعتزل الناس، فإنّ هذا زمان وحشة، والعاقل الناصح لنفسه من اختار الوحدة وآنس بها، ولست أرى عارفاً يستوحش مع الله، وألزموا الوحدة، واستتروا بالجدّ(5)، وامحوا أسماءكم من قلوب الناس تسلمون من

____________

1- في "ج": ولم يره النبي صلى الله عليه وآله.

2- في "ج": للمحبين.

3- عنه البحار 14: 40 ح 23، وفيه: أوحى الله إلى داود عليه السلام.

4- راجع البحار 70: 108 ح 1; عن أمالي الصدوق نحوه; وأورده في أعلام الدين: 279.

5- في "ب" و"ج": بالجدار.


الصفحة 199
غوائلهم.

ولمّا ذكر أمير المؤمنين عليه السلام هذا الزمان وفتنته قال: ذلك زمان لا يسلم فيه إلاّ كل مؤمن نؤمة، إذا شهد لم يُعرف، وإذا غاب لم يُفتقد، اولئك مصابيح الهدى، وأعلام السرى، ليسوا بالمساييح ولا المذاييع البذر، اولئك يفتح الله عليهم أبواب رحمته، ويسدّ عنهم أبواب نقمته(1).

تفسير(2): المساييح يعني يسيحون في الأرض بالفساد، والمذاييع: النميمة والكذب، والبذر: يبذرون الكذب والنميمة كبذر الزرع من كثرته.

وإذا أراد الله أن ينقل العبد من ذلّ المعصية إلى عزّ الطاعة، ومن فتنة الناس إلى السلامة منهم، آنسه بالوحدة، وحبب إليه الخلوة، وأغناه بالقناعة، وبصّره عيوب نفسه، وحجبه عن عيوب الناس، ومن اعطي ذلك فقد اعطي خير الدنيا والآخرة.

____________

1- نهج البلاغة: الخطبة 103; عنه البحار 69: 273 ح 5.

2- في "ج": وقال.