الصفحة 200

الباب السابع والعشرون
في الورع والترغيب فيه


قال الصادق عليه السلام: عليكم بالورع والإجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم، فلو انّ قاتل الحسين عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لائتمنته(1) إليه.

وقال عليه السلام: انّ أحق الناس بالورع آل محمد وشيعتهم لكي يقتدي الناس بهم، فانّهم القدوة لمن اقتدى، فاتقوا الله وأطيعوه فانّه لا ينال ما عند الله إلاّ بالتقوى والورع والإجتهاد، فإنّ الله تعالى يقول: {انّ أكرمكم عند الله أتقاكم}(2).

وقال: أما والله انّكم على دين الله ودين ملائكته، فأعينونا على ذلك بالورع والإجتهاد وكثرة العبادة، وعليكم بالورع(3).

وروي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: كنت مع أبي حتّى انتهينا إلى القبر

____________

1- في "ج": لأتيته.

2- الحجرات: 13.

3- الكافي 2: 187 ح5; عنه البحار 74: 260 ح59.


الصفحة 201
والمنبر فإذا اُناس من أصحابه، فوقف عليه السلام وقال: والله انّي لاُحبكم واحب ريحكم وأرواحكم، فأعينونا على ذلك بورع واجتهاد فانّكم لن تنالوا ولايتنا إلاّ بالورع والاجتهاد، ومن ائتم بامام فليعمل بعمله.

ثم قال: أنتم شرطة الله، وأنتم شيعة الله، وأنتم السابقون الأوّلون، والسابقون في الآخرة إلى الجنّة، ضمنّا لكم الجنّة بضمان الله عزوجل وضمان رسوله، أنتم الطيبون ونساؤكم الطيبات، كل مؤمن صدّيق وكل مؤمنة حوراء.

وكم من مرّة قد قال علي عليه السلام لقنبر: بشّر وأبشر واستبشر، فوالله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وانّه لساخط على جميع امّته إلاّ الشيعة، انّ لكل شيء عروة وانّ عروة الدين الشيعة، ألا وانّ لكل شيء شرفاً وشرف الدين الشيعة، ألا وانّ لكل شيء اماماً وامام الأرض أرض تسكنها الشيعة، والله لولا ما في الأرض منكم لمادت الأرض بأهلها، وكل مخالف في الأرض وان تعبّد واجتهد فمنسوب إلى هذه الآية:{خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى ناراً حامية * تسقى من عين آنية}(1).

والله ما دعا مخالف دعوة خير إلاّ كانت اجابة دعوته لكم، ولا دعا احد منكم دعوة خير إلاّ كانت له من الله مائة، ولا [احد منكم](2) سأله مسألة إلاّ كانت له من الله مائة، ولا عمل أحد منكم حسنة إلاّ لم يحص تضاعفها(3).

والله انّ صائمكم ليرتع في رياض الجنّة، والله انّ حاجّكم ومعتمركم لمن خاصّة الله، وأنتم جميعاً لأهل دعوة الله وأهل إجابته، ولا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، كلّكم في الجنّة فتنافسوا في الدرجات، فوالله ما أقرب إلى عرش الله من

____________

1- الغاشية: 2 - 5.

2- أثبتناه من "ج".

3- في "ج": إلاّ له احسن منها.


الصفحة 202
شيعتنا، حبّذا شيعتنا ما أحسن صنيع الله إليهم.

والله لقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: تخرج شيعتنا من قبورهم مشرقة وجوههم، قريرة أعينهم، قد اُعطوا الأمان، تخاف الناس ولا يخافون، وتحزن الناس ولا يحزنون، والله ما سعى أحدكم إلى الصلاة إلاّ وقد اكتنفته الملائكة من خلفه يدعون الله له بالفوز حتّى يفرغ من صلاته، ألا انّ لكل شيء جوهراً وجوهر ولد آدم محمدصلى الله عليه وآله، ونحن وأنتم(1).

وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: ما تقرّب اليّ المتقرّبون بمثل الورع عن محارمي(2).

____________

1- مجموعة ورام 2: 90; امالي الطوسي: 722 ح6 مجلس 43; عنه البحار 68: 146 ح 95.

2- الكافي 2: 80 ح3; عنه البحار 71: 204 ح8.


الصفحة 203

الباب الثامن والعشرون
في الصمت


قال الرضا عليه السلام: من علامات الفقه الحلم والحياء والصمت، انّ الصمت باب من أبواب الحكمة، وانّه ليكسب المحبّة ويوجب السلامة، وراحة لكرام الكاتبين، وانّه لدليل على كل خير(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يزال الرجل المسلم سالماً ما دام ساكتاً، فإذا تكلّم كتب محسناً او مسيئاً(2).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله لرجل: ألا أدلّك على أمر يدخلك الله به الجنة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: أنل ممّا أنالك الله، قال: فان لم يكن لي، قال: فانصر المظلوم، قال: فان لم أقدر، قال: قل خيراً تغنم، واسكت(3) تسلم(4).

وقال رجل للرضا عليه السلام: أوصني، فقال: احفظ لسانك تعز، ولا تمكن

____________

1- قرب الاسناد: 369 ح 1321; عنه البحار 71: 276 ح8; ونحوه في تحف العقول: 332.

2- الاعتقادات للصدوق: 46، باب الاعتقاد فيما يكتب على العبد; عنه البحار 5: 327 ح22.

3- في "ج": أو اسكت.

4- الكافي 2: 113 ح 5; عنه البحار 71: 296 ح 69 باختلاف.


الصفحة 204
الشيطان من قيادك فتذلّ(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته لابنه محمد بن الحنفية: واعلم يا بني انّ اللسان كلب عقور إن أرسلته عقرك، وربّ كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك(2)، ومن سيّب عذار لسانه ساقه إلى كل كريهة.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم، ومن أراد السلامة في الدنيا والآخرة قيّد لسانه بلجام الشرع فلا يطلقه الا فيما ينفعه(3) في الدنيا والآخرة.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من صمت نجا(4).

وقال عقبة بن عامر: قلت: يا رسول الله فيما النجاة؟ قال: أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك(5).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من وقى شر قبقبه ولقلقه وذبذبه فقد وقى الشر كله، والقبقب البطن، واللقلق اللسان، والذبذب الفرج(6).

وقال: لا يستقيم ايمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه، لأنّ لسان المؤمن ورآء قلبه إذا أراد أن يتكلّم يتدبّر(7) الكلام، فان كان خيراً أبداه وان كان شراً واراه، والمنافق قلبه ورآء لسانه، يتكلّم بما أتى على لسانه ولا يبالي ما عليه مما له، وانّ أكثر خطايا ابن آدم من لسانه(8).

____________

1- الكافي 2: 113 ح 4; عنه البحار 71: 296 ح 68، وفيه: لا تمكن الناس.

2- إلى هنا في البحار71: 287 ح 43; عن الاختصاص.

3- في "ب": يعينه وينفعه.

4- مجموعة ورام 1: 104; روضة الواعظين: 469.

5- مجموعة ورام 1: 104.

6- مجموعة ورام 1: 105.

7- في "ب": تدبر.

8- نهج البلاغة: الخطبة 176; عنه البحار 71: 292 ح62 باختلاف قليل.


الصفحة 205
وقال عليه السلام: من كف لسانه ستر الله عوراته(1)، ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه، ومن اعتذر إلى الله قبل عذره.

وقال أعرابي: يا رسول الله دلّني على عمل أنجو به، فقال: أطعم الجائع، وارو العطشان، وامر بالمعروف وانه عن المنكر، فان لم تطق فكف لسانك فانّك بذلك تغلب الشيطان(2).

وقال: انّ الله عند لسان كل قائل، فليتق الله امرء وليعلم ما يقول(3).

وقال: إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فادنوا منه فانّه يلقي الحكمة(4).

وقال عيسى بن مريم عليه السلام: العبادة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت وجزء واحد في الفرار من الناس(5).

وفي حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه(6)، مستوحشاً من أوثق إخوانه، ومن أكثر ذكر الموت رضى باليسير، وهان عليه من الاُمور الكثير، ومن عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ من خير.

واعلم انّ أحسن الأحوال أن تحفظ لسانك من الغيبة والنميمة ولغو القول، وتشغل لسانك بذكر الله تعالى أو في تعلّم علم(7) فانّه من ذكر الله، فإنّ العمر متجر عظيم كلّ نَفَس منه جوهرة، فإذا ترك الذكر وشغل لسانه باللغو كان كمن رأى درّة فأراد أن يأخذها فأخذ عوضها مدرة، لأنّ الإنسان إذا عاين ملك الموت لقبض(8)

____________

1- في "ب": عورته.

2- مجموعة ورام 1: 105.

3- مجموعة ورام 1: 105.

4- مجموعة ورام 1: 106.

5- مجموعة ورام 1: 106.

6- إلى هنا في الكافي 2: 116 ح20; مجموعة ورام 1: 106.

7- في "ب": او في علم تعلّمه.

8- في "ب": ليقبض.


الصفحة 206
روحه فلو طلب منه المفاداة(1) على أن يتركه ساعة او نفساً واحداً يقول فيه: "لااله إلاّ الله" بملك الدنيا لم يقبل منه.

وكم يضيّع الإنسان من ساعة في لا شيء، بل ساعات وأيام، فهذا هو الغبن العظيم، وانّ المؤمن هو الذي يكون نطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره اعتباراً.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي ذر: ألا اُعلّمك عملاً ثقيلاً في الميزان خفيفاً على اللسان؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: الصمت، وحسن الخلق، وترك ما لا يعنيك(2).

وروي انّ لقمان رأى داود يعمل الزرد، فأراد أن يسأله ثم سكت، فلمّا لبسها داود عليه السلام عرف لقمان حالها بغير سؤال(3).

وقال: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثر لغوه، ومن كثر لغوه كثر كذبه، ومن كثر كذبه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به، ولقد حجب الله اللسان بأربع مصاريع لكثرة ضرره، الشفتان مصرعان، والأسنان مصرعان.

وقال بعض العلماء: انّما خلق للانسان لسان واحد واُذنان وعينان، ليسمع ويبصر أكثر مما يقول. وروي انّ الصمت مثراة(4) الحكمة.

____________

1- في "ج": التأخير.

2- مجموعة ورام 1: 107.

3- مجموعة ورام 1: 108.

4- في "ج": مرآة.


الصفحة 207

الباب التاسع والعشرون
في الخوف من الله تعالى


روي انّ ابراهيم عليه السلام [كان](1) يسمع منه في صلاته أزير كأزير المرجل من خوف الله تعالى في صدره، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله كذلك(2). وكان أمير المومنين عليه السلام إذا قال: "وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض" يتغيّر وجهه، ويصفرّ لونه، فيعرف ذلك في وجهه من خيفة الله تعالى.

وأعتق ألف عبد من كدّ يمينه، وكان يغرس النخل ويبيعها ويشتري بثمنها العبيد ويعتقهم، ويعطيهم مع ذلك ما يغنيهم عن الناس، وأخبره بعض عبيده انّه قد نبع في بستانه عين، ينبع الماء منها مثل عنق البعير، فقال: بشر الوارث، بشر الوارث، ثم أحضر شهوداً فأشهدهم انّه أوقفها في سبيل الله حتّى يرث الله الأرض ومن عليها، وقال: انّما فعلت ذلك ليصرف الله عن وجهي النار.

____________

1- أثبتناه من "ج".

2- عنه مستدرك الوسائل 11: 232 ح 12834.


الصفحة 208
وأعطى معاوية للحسن عليه السلام فيها مائتي ألف دينار، فقال: ما كنت أبيع شيئاً أوقفه أبي في سبيل الله، وما عرض له أمران إلاّ عمل بأشدّهما طاعة، وكان إذا سجد سجدة الشكر غشي عليه من خيفة(1) الله تعالى.

وكانت فاطمة عليها السلام تنهج في صلاتها من خوف الله تعالى، وكان علي بن الحسين عليه السلام يتغيّر وجهه في صلاته من خوف الله تعالى.

وقال لقمان لابنه: يا بني خف الله خوفاً لو أتيته بعمل الثقلين خفت أن يعذّبك، وارجه رجاء لو أتيته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر لك(2).

وقال علي بن الحسين عليهما السلام: يا ابن آدم انّك لا تزال بخير ما دام(3)لك واعظاً من نفسك، وما كان الخوف شعارك، والحزن دثارك، يا ابن آدم انّك ميّت ومحاسب فاعد الجواب.

وأوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام: خفني في سر أمرك(4)احفظك في عوراتك، واذكرني في سرائرك وخلواتك وعند سرور لذّاتك أذكرك عند غفلاتك، واملك غضبك عمّن ملّكتك أمره أكفّ غضبي عنك، واكتم مكنون سرّي، وأظهر في علانيتك المداراة عنّي لعدوّك وعدوّي(5).

وقال الصادق عليه السلام: ما الدنيا عندي إلاّ بمنزلة الميتة، إذا اضطررت إليها أكلت منها، يا حفص انّ الله تعالى علم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، فحلم عنهم عند أعمالهم السيّئة بعلمه السابق فيهم، وانّما يعجّل من يخاف الفوت، فلا يغرّنّك من الله تأخير العقوبة، ثم تلا قوله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها

____________

1- في "ج": خشية.

2- البحار 70: 384 ح 40; عن أمالي الصدوق.

3- في "ج": كان.

4- في "ب" و"ج": سرائرك.

5- أمالي الصدوق: 210 ح 6 مجلس:44; عنه البحار 13: 328 ح6.


الصفحة 209
للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}(1). وجعل يبكي ويقول: ذهبت الأماني عند هذه الآية.

ثم قال: فاز والله الأبرار وخسر الأشرار، أتدري من الأبرار؟! هم الذين خافوه واتقوه وتقرّبوا إليه بالأعمال الصالحة، وخشوه في سرائرهم وعلانيتهم، كفى بخشية الله علماً وكفى بالإغترار به جهلاً.

يا حفص انّ الله يغفر للجاهلين سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً، يا حفص من تعلّم وعمل كتب في الملكوت عظيماً، انّ أعلم الناس بالله أخوفهم منه، وأخشاهم له، وأزهدهم في الدنيا، فقال له رجل: يا ابن رسول الله أوصني، فقال: اتق الله حيث كنت فانّك لا تستوحش(2).

وقال الصادق عليه السلام: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم قاعداً إذ نزل عليه جبرئيل عليه السلام كئيباً حزيناً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أخي جبرئيل ما لي أراك كئيباً حزيناً؟

فقال: كيف لا أكون كذلك وقد وضعت منافيخ جهنّم اليوم، قال: وما منافيخ جهنّم؟ فقال: انّ الله أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف عام حتّى ابيضّت، ثم أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت، فهي سوداء مظلمة، ظلمات بعضها فوق بعض. فلو انّ حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الجبال لذابت من حرّها، ولو انّ قطرة من الزقوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وبكى جبرئيل، فأوحى الله إليهما: قد أمنتكما من أن تذنبا ذنباً تستحقان به النار، ولكن هكذا كونا(3).

____________

1- القصص: 83.

2- تفسير القمي 2: 146; عنه البحار 78: 193 ح7.

3- عنه معالم الزلفى: 337; وانظر روضة الواعظين: 506 و508; وفي البحار 8: 280 ح 1; عن تفسير القمي.


الصفحة 210
وما جاء من الخوف والخشية في القرآن فكثير، مثل قوله تعالى: {وخافون ان كنتم مؤمنين}(1).

وقال: {وايّاي فارهبون}(2).

وقال في مدح قوم: {يخافون ربهم من فوقهم}(3).

وقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}(4).

وقال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإنّ الجنّة هي المأوى}(5).

وقال: {انّما يخشى الله من عباده العلماء}(6).

فالخشية ثمرة العلم ولا علم لمن لا خشية له، والخوف(7) سراج النفس به يُهدى من ظلمتها، وليس الخوف من يبكي ويمسح الدموع انّما ذلك خوف كاذب، وانّما الخائف الذي يترك الذنب(8) الذي يُعذّب عليه.

ولو خاف الرجل النار كما يخاف الفقر لأمن منها، وانّ المؤمن لا يطمئنّ قلبه، ولا تسكن روعته حتّى يترك جسر جهنم وراءه ويستقبل باب الجنة، ولا يسكن الخوف اليوم إلاّ قلب من يأمن غداً، وكذلك قال الله تعالى: "وعزّتي وجلالي لاأجمع لعبدي بين خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة(9).

____________

1- آل عمران: 175.

2- البقرة: 40.

3- النحل: 50.

4- الرحمن: 46.

5- النازعات: 40-41.

6- فاطر: 28.

7- في "ج": الخشية.

8- في "ج": الأمر.

9- الخصال: 79 ح 127 باب 2; عنه البحار 70: 379 ح 28.


الصفحة 211
والخوف توقّع العقوبة في كل ساعة، وما فارق الخوف إلاّ قلباً خراباً، ودوام المراقبة لله تعالى في السر والعلانية يهيّج الخوف في القلب، ومن علاماته قصر الأمل وشدّة العمل والورع.

وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله: قول الله تعالى: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة انّهم إلى ربهم راجعون}(1)، يعني بذلك الرجل الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو خائف؟ قال: لا ولكن الرجل الذي يصلّي ويصوم ويتصدّق وهو مع ذلك يخاف ألاّ يقبل منه.

ومتى سكن الخوف في القلب أحرق منه موضع الشهوات، وطرد عنه رغبة الدنيا، وأظهر آثار الحزن على الوجه.

____________

1- المؤمنون: 60.


الصفحة 212

الباب الثلاثون
في الرجاء لله تعالى


عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه فليقطع رجاءه من الناس وليصله به، فإذا علم ذلك منه لم يسأله شيئاً إلاّ أعطاه(1).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال جبرئيل: قال الله تعالى: عبدي إذا عرفتني وعبدتني ورجوتني ولم تشرك بي شيئاً غفرت لك على ما كان منك، ولو استقبلتني بملئ الأرض خطايا وذنوباً استقبلتك بملئها مغفرة وعفواً، وأغفر لك ولا اُبالي.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يقول الله عزوجل: أخرجوا من النار من كان في قلبه مقدار حبّة ايماناً، ثم يقول: وعزّتي وجلالي لا أجعل من آمن بي ساعة من ليل أو نهار مع من لم يؤمن بي.

وحقيقة الرجاء انبساط الأمل في رحمة الله تعالى وحسن الظنّ به، واعلم انّ

____________

1- أمالي المفيد: 203 مجلس: 39; عنه البحار 93: 355 ح4 باختلاف قليل.


الصفحة 213
علامة الراجي حسن الطاعة، لأنّ الرجاء ثلاث مراتب: رجل عمل الحسنة فيرجو قبولها، ورجل عمل السيّئة فيرجو غفرانها، ورجل كذّاب مغرور يعمل المعاصي ويتمنّى المغفرة مع الإصرار والتهاون بالذنوب.

وقال رجل للصادق عليه السلام: انّ قوماً من شيعتكم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو، فقال: كذبوا ليسوا من شيعتنا، كل من رجا شيئاً عمل له، فوالله ما شيعتنا منكم إلاّ من اتقى الله(1).

وقال: انّ قوماً استقبلوا عليّاً عليه السلام فسلّموا عليه وقالوا: نحن شيعتكم يا أمير المؤمنين، قال: فما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟! قالوا: وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين؟ فقال: صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من البكاء، خمص البطون من الطوى، ذبل الشفاة من الدعاء، حدب الظهور من القيام، عليهم غبرة الخاشعين(2).

وقال رجل: يا ابن رسول الله انّي ألمّ بالمعاصي وأرجو العفو مع ذلك، فقال له: يا هذا اتق الله، واعمل بطاعته، وارج مع ذلك القبول، فإنّ أحسن الناس بالله ظنّاً وأعظمهم رجاء أعملهم بطاعته.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام أحسن الناس بالله ظنّاً، وأبسطهم له وجهاً، وكانا أعظم الناس منه خوفاً، وأشدّهم له هيبة ومنه رهبة صلى الله عليهما، وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام، لم يكن في زمان كل واحد منهم أحد أحسن منه رجاء، ولا أشد منه خوفاً.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه: إن استطعتم أن يشتد من الله خوفكم ويحسن ظنّكم به فأجمعوا بينهما، فانّما يكون حسن ظنّ العبد بربه على قدر

____________

1- الكافي 2: 68 ح 6; عنه البحار 70: 357 ح 4.

2- أمالي الطوسي: 216 ح 27 مجلس: 8; عنه البحار 77: 404 ح 30.


الصفحة 214
خوفه منه، وان أحسن الناس بالله ظنّاً أشدهم منه خوفاً، فدعوا الأماني منكم، وجدّوا واجتهدوا وأدّوا إلى الله حقه وإلى خلقه، فما مع أحد براءة من النار، وليس لأحد على الله حجة، ولا بين أحد وبين الله قرابة(1).

فما ضرب الله تعالى مثل آدم في انّه عصى بأكل حبة إلاّ عبرة لكم وتذكرة، ولقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول في تسبيحه: "سبحان من جعل خطيئة آدم عبرة لأولاده"، أراد بها انّ أباكم آدم الذي هو أصلكم قد اصطفاه وجعله أبا الأنبياء سمّاه عاصياً، وأهبطه من الجنّة إلى الأرض، وطفق هو واُمّكم حواء يخصفان عليهما من ورق الجنّة لأجل أكل حبة واحدة، فكيف بكم وأنتم تأكلون البيادر كلها؟! هذا هو الطمع العظيم في جنب الله تعالى.

وينبغي أن يكون الرجاء والخوف كجناحي طائر في قلب المؤمن، إذا استويا حصل الطيران، وإذا حصل أحدهما دون الآخر فقد انكسر أحد الجناحين، وحصل النقص في القلب وفي العمل.

وينبغي للعبد أن يبسط رجاءه في الله تعالى، ويحدث في نفسه انّه يعاين من عفوه ورحمته وكرمه عند لقائه ما لم يكن في حسابه، ولا شك انّ العاقل يرى نفسه مقصّراً وليس له وثوق بقبول عمله، فلا يعتمد إلاّ على حسن الظنّ بالله والرجاء لعفوه وحلمه وكرمه، والرغبة إليه والتضرّع بين يديه والابتهال، كما قال عليه السلام:

"الهي ذنوبي تخوّفني منك، وجودك يبشّرني عنك، فاخرجني بالخوف من الخطايا، وأوصلني بجودك إلى العطايا حتّى أكون غداً في القيامة عتيق كرمك، كما كنت في الدنيا ربيب نعمتك، وليس ما تبذله غداً من النجاة بأعظم ممّا قد منحته من الرجاء، ومتى خاب من في فنائك آمل، أم متى انصرف بالرد عنك سائل؟!. الهي ما

____________

1- عنه مستدرك الوسائل 11: 250 ح 12903.


الصفحة 215
دعاك من لم تجبه، لأنّك قلت: "ادعوني استجب لكم" وأنت لا تخلف الميعاد، فصلّ على محمد وآل محمد، واستجب دعائي، ولا تقطع رجائي يا أرحم الراحمين"(1).

وروي انّ سبب نزول قوله تعالى: {نبّئ عبادي انّي أنا الغفور الرحيم}(2)، انّ رسول الله صلى الله عليه وآله مرّ بقوم يضحكون، فقال: أتضحكون؟! فلو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم طويلاً، فنزل جبرئيل عليه السلام وقال: يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول لك: {نبّئ عبادي انّي أنا الغفور الرحيم}.

قالت ام سلمة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: انّ الله تعالى ليعجب من أياس العبد من رحمته، وقنوطه من عفوه مع عظم سعة رحمته.

وروي انّ علي بن الحسين عليه السلام مرّ بالزهري وهو يضحك وقد خولط، فقال: ما باله؟ فقالوا: هذا لحقه من قتل النفس، فقال: والله لقنوطه من رحمة الله أشد عليه من قتله.

وينبغي أن يعتمد العبد على حسن الظنّ بالله تعالى فانّه وسيلة عظيمة، فإنّ الله تعالى يقول: أنا عند حسن ظنّ عبدي المؤمن. ورأى بعضهم في المنام صاحباً له على أحسن الحال، فقال: بأيّ شيء نلت هذا؟ فقال: بحسن ظنّي بربي، وما ينال أحد خير الدنيا والآخرة الا بحسن الظنّ بالله تعالى.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الثقة بالله وحسن الظنّ به حصن لا يتحصّن به إلاّ كل مؤمن، والتوكل عليه نجاة من كل سوء، وحرز من كل عدوّ(3).

وقال الصادق عليه السلام: والله ما اُعطي المؤمن خير الدنيا والآخرة الا بحسن ظنّه بالله ورجائه له، وحسن خلقه، والكف عن أعراض الناس، فإنّ الله تعالى لا يُعذّب عبداً بعد التوبة والاستغفار إلاّ بسوء ظنّه وتقصيره في رجائه،

____________

1- راجع البحار 94: 112 ح 16.

2- الحجر: 49.

3- عنه مستدرك الوسائل 11: 250 ح 12902; وأورده الديلمي في اعلام الدين: 455.


الصفحة 216
وسوء خلقه واغتيابه للمؤمنين.

وليس يحسن ظنُّ عبد بربّه إلاّ كان عند ظنّه به(1)، لأنّ الله تعالى كريم يستحي أن يخلف ظنَّ عبدِه بِه ورجاءه له، فأحسنوا الظنّ بالله وارغبوا فيما عند الله، فانّه سبحانه يقول للظانّين بالله ظنّ السوء: {عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً}(2)(3).

ورأى بعضهم صاحباً له في المنام فقال له: ما فُعل بك؟ قال: غفر لي ومحى ذنوبي كلها بحسن ظنّي به.

وروي انّ الله سبحانه يقول: أنا عند حسن ظنّ عبدي المؤمن بي، فلا يظنّ بي إلاّ خيراً(4).

وكان بعضهم كثيراً يسأل العصمة، فرأى في منامه: كلّكم يسألني العصمة، فإذا عصمتكم جميعاً من الذنوب لمن تشمل وتعمّ رحمتي؟!.

وأوحى الله إلى داود عليه السلام: قل لعبادي: لم أخلقكم لأربح عليكم، ولكن لتربحوا عليّ. صدق الله العظيم، ودليل ذلك انّه جعل الحسنة بعشر، وزاد لمن يشاء بسبعمائة ضعف لقوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة}(5).

وجعل السيئة سيئة واحدة، والاهتمام بالحسنة حسنة وان لم يفعلها، ولا شيء في الاهتمام بالسيئة ان لم يفعلها، وجعل التوبة من الذنب حسنة، وانّه تعالى يحب التوابين، فدلّ ذلك على انّه خلقنا ليربّحنا عليه في معاملته.

____________

1- في "ج": عند ظن عبده.

2- الفتح: 6.

3- راجع عدة الداعي: 147; عنه البحار 70: 399 ح 72.

4- راجع البحار 93: 305 ح 1.

5- البقرة: 261.


الصفحة 217
وروي عن الحسن العسكري عليه السلام انّ أبا دلف تصدّق بنخلة تمر، ثم أعطاه الله بكل تمرة منها قرية، وكان فيها ثلاثة آلاف تمرة وستون تمرة، فأعطاه الله تعالى بها ثلاثة آلاف قرية وستون قرية.

وروي انّ امرأة في زمان داود عليه السلام خرجت من دارها ومعها ثلاثة أرغفة وثلاثة أرطال شعيراً، فسألها فقير فأعطته الثلاثة الأرغفة وقالت: أطحن الشعير وآكل منه، وهو في شيء على رأسها، فهبّت ريح عاصفة فأخذتها من رأسها، فوحشت لذلك وضاق صدرها.

فأتت داود عليه السلام وشكت إليه، فقال لها: امضي إلى ابني سليمان فاحكي له ذلك، فمضت إليه فأعطاها ألف درهم، فرجعت إلى داود فأخبرته، فقال لها: ردّيها عليه وقولي له: ما اُريد إلاّ أن تخبرني لم أخذت الريح شعيري؟.

فقال لها سليمان: يا امرأة قد أعطيناك ألف درهم، فقالت: ما آخذها، فأعطاها ألف اُخرى، فرجعت إلى داود عليه السلام فأخبرته، فقال لها: رديها عليه وقولي: لم آخذ شيئاً بل اسأل الله يحضر لك الملك الموكل بالريح لم أخذ شعيري، أعن اذن الله تعالى أم لا؟.

فسأل الله تعالى فأحضره وسأله عن شعيرها، فقال: باذن الله تعالى أخذناه، فإنّ تاجراً كان معه مراكب كثيرة وقد نفذ زاده، ونذر انّه إن أكل من زاد أحد كان له ثلث أموال المراكب، وقد أعطيناه الشعير فأكله ووجب عليه الوفاء بالنذر، فأحضره سليمان وسأله فأقرّ بذلك وسأله احضار صاحبة الشعير، فقال التاجر للمرأة: قد حصل لك من ثلث المراكب بحقك ثلاثمائة ألف دينار وستون ألف دينار، وأقبضها المال.

فقال داود عليه السلام: يا بني من أراد المعاملة الرابحة فليعامل هذا الرب الكريم.


الصفحة 218
ومن هاهنا جاء الحديث: إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة، [فسبحانه](1) ما أربح معاملته، وما أنجح مرابحته.

____________

1- أثبتناه من "ب".