الصفحة 135
وقال آخر:


هوّن الدنيا وما فيها عليكواجعل الهمّ لما بين لديك
انّ هذا الدهر يدنيك الىملك الموت ويدنيه إليك
فاجعل العدّة ما عشت لهانّه يأتيك إحدى ليلتيك

وقال سلمان رحمه الله: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث، أضحكني غافلاً وليس بمغفول عنه، وضاحك ملأ فيه والموت يطلبه، ومؤمّل الدنيا ولا يدري متى أجله، وأبكاني فراق الأحبّة، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله تعالى، لا أدري(1) أساخط هو أم راض(2).

واعلموا رحمكم الله انّما يتوقّع الصحيح سقماً يرديه، وموتاً من البلاء يدنيه، فكأنّه لم يكن في الدنيا ساكن، وإليها راكن، نزل به الموت فأصبح بين أهله وولده لا يفهم كلاماً، ولا يردّ سلاماً، قد اصفرّ وجهه، وشخص بصره، وشرح(3) صدره، ويبس ريقه، واضطربت أوصاله، وقلقلت أحشاؤه، والأحبّة حوله.

يرى فلا يعرف، ويسمع فلا يرد، وينادي فلا يجيب، خلّف القصور، وخلت منه الدور، وحمل على أعتاق الرجال، يسرعون به إلى محلّة الأموات، ودار الحسرات(4)، وبيت الوحدة والغربة والوحشة، ثم قسّموا أمواله، وسكنوا داره، وتزوّجوا أزواجه، وحصل هو برهنه(5)، فرحم الله من جعل الهمّ همّاً واحداً، وأكل قوته، وأحسن عمله، وقصر ليله(6).

____________

1- في "ب": لا يُدرى.

2- مجموعة ورام 2: 224.

3- في "ب": تحرج، وفي "ج": حشرج.

4- في "ج": دار الخسران.

5- في "ج": برمسه.

6- في "ج": قصر أمله.


الصفحة 136
وروي انّه إذا حمل عدوّ الله إلى قبره، نادى إلى من تبعه: يا إخوتاه! احذروا مثل ما وقعت فيه، انّي أشكوا دنياً غرّتني حتّى إذا اطمأننت إليها وضعتني، وأشكوا اليكم أخلاّء الهوى حتّى إذا وافقتهم تبرّؤوا منّي وخذلوني، وأشكوا اليكم أولاداً آثرتهم على نفسي فأسلموني.

وأشكوا اليكم مالاً كدحت في جمعه البر والبحر، وقاسيت الأهوال، فأخذه أعدائي وصار وبالاً عليّ، وعاد نفعه لغيري وأصبحت مرتهناً به، وأشكوا اليكم بيت الوحدة والوحشة والظلمة والمساءلة عن الصغيرة من عملي والكبيرة، فاحذروا مثل ما قد نزل بي، فواطول بلائي، وعظم عنائي، مالي شفيع ولا رحيم حميم(1).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا دخل الجبانة يقول: السلام عليكم أيّها الأبدان البالية، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا بحسراتها، وحصلت منها برهنها، اللهم أدخل عليهم روحاً منك وسلاماً منّا ومنك يا أرحم الراحمين.

وقال عبدالله الجرهمي ـ وكان من المعمّرين ـ: تبعت جنازة فخنقتني العبرة، فأنشدت:


يا قلب انّك في الدنيا لمغرورفاذكر فهل ينفعنّ اليوم تذكير
فبينما المرء في الأحياء مغتبطاًإذ صار في الرمس تقفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفهوذوا قرابته في الحيّ مسرور
واسترزق الله خيراً ثم ارض بهفبينما العسر إذ دارت مياسير

فقال رجل من أصحاب الجنازة: تعرف لمن هذا الشعر؟ فقلت: لا والله، فقال: هو [والله](2) لصاحب هذه الجنازة، وأنت غريب تبكي عليه وأهله

____________

1- مجموعة ورام 2: 224.

2- أثبتناه من "ب".


الصفحة 137
مسرورون بتركته، فقال أبو العتاهيّة:


أرى الدنيا تجهز بانطلاقمشمّرة على قدم وساق
فلا الدنيا بباقية لحيّولا حيّ على الدنيا بباق

وقال بعضهم: محلّة الأموات أبلغ العظات، فزوروا القبور واعتبروا للنشور(1).

وكان(2) بعضهم يدخل المقبرة ليلاً فينادي: يا أهل القبور من أنتم؟ ثم يجيب عن نفسه: نحن الآباء والاُمّهات والإخوة، نحن الأصدقاء والإخوان والأخوات، نحن الأحباب والجيران، نحن الأحبّة والخلاّن، طحننا البلاء، وأكلتنا الجنادل والثرى.

وأنشد بعضهم:


خمدوا فليس يُجاب من ناداهمموتى وكيف إجابة الأموات

قال براء بن عازب: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله إذ أبصر بجنازة تدفن، فبادر إليها مسرعاً حتّى وقف عليها، ثم بكى حتّى بلّ ثوبه، ثم التفت إلينا فقال: يا إخوتي! لمثل هذا فليعمل العاملون، احذروا هذا واعملوا له(3).

وكتب بعضهم إلى ملك يعظه: أيّها الملك إعدل برعيّتك، وارحم من تحت يدك ولا تتجبّر عليهم، ولا تعل قدرك، ولا تنس قبرك الذي هو منتهى أمرك، فإنّ الموت يأتيك وان طال عمرك، والحساب أمامك، والقيامة موعدك، وقد كان هذا الأمر الذي أنت فيه بيد غيرك، فلو بقي له لم يصل إليك، وسينقل عنك كما انتقل عنه، وانّه لا يبقى لك ولا تبقى له.

____________

1- مجموعة ورام 2: 224.

2- في "ج": ورؤي.

3- مجموعة ورام 2: 225; مستدرك الوسائل 2: 465 ح 2476.


الصفحة 138
فقدّم لنفسك خيراً تجده محضراً، وتزوّد من دار الغرور لدار الفرح والسرور، واعتبر بمن كان قبلك ممّن خزن الأموال، وخلّد الأقلال، وجمع الرجال، فلم يستطع دفع المنيّة، ولا ردّ الرزيّة، فلا تغتر بدنيا دنيّة، لم يرضها الله جزاء لأوليائه ولا عذاباً لأعدائه، واعتبر بقول الشاعر:


وكيف يلذّ العيش من كان موقناًبانّ المنايا بغتة ستعاجله
وكيف يلذّ النوم من كان موقناًبانّ اله الخلق لابد سائله
وكيف يلذّ العيش من كان صائراًإلى جدث تبلى الثياب(1) منازله
وكيف يلذّ النوم من أثبتوا لهمثاقيل أوزار الذي هو فاعله

____________

1- في "الف": الشباب.


الصفحة 139

الباب السادس عشر
من كلام المصنّف في الموعظة


قال جامع هذا الكتاب: انّ الموعظة لا تنجع فيمن لا زاجر له ولا واعظ من نفسه، وما وهب الله تعالى لعبده هبة أنفع له من [زاجر](1) من نفسه، وقلّ أن تنجع الموعظة في أهل التجبّر والتكبّر.

وانّي لأعجب من قوم غدوا في المطارف(2) العتاق، والثياب الرقاق، يحيطون الولايات، ويتحمّلون الأمانات، ويتعرّضون للخيانات، حتّى إذا بلغوا بغيتهم ونالوا اُمنيتهم أخافوا مَن فوقهم مِن أهل الفضل والعفّة(3)، وظلموا مَن دونهم مِن أهل الضعف والحرفة.

وسمّنوا براذينهم(4)، وأهزلوا دينهم، وعمّروا دنياهم، وخرّبوا اُخراهم، وأوسعوا دورهم، وضيّقوا قبورهم، يتّكئ أحدهم على شماله ويأكل غير ماله،

____________

1- أثبتناه من "ج".

2- المِطرَف والمُطرَف ـ واحد المطارف ـ: وهي أردية من خزّ مربّعة لها أعلام. (لسان العرب) 3- في "ج": الفقه.

4- في "ج": أبدانهم.


الصفحة 140
يدعو بحلو بعد حامض، ورطب بعد يابس، وحار بعد بارد، حتّى إذا غصّته الكظّة، وأثقلته البطنة، وغلبه البشم قال: يا جارية! هاتي هاضوماً، هاتي حاطوماً.

والله يا جاهل يا مغرور، ما حطمت طعامك بل حطمت دينك، وأزلت يقينك، فأين مسكينك، وأين يتيمك، وأين جارك، وأين من غصبته وظلمته؟! استأثرت بهذا عليه، وتجبّرت بسلطانك عليه حتّى إذا بالغ هذا في المظالم، وارتطم في المآثم، قال: قد زرت وقد حججت وقد تصدّقت، ونسى قول الله تعالى: {انّما يتقبّل الله من المتقين}(1).

وقوله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}(2).

وقول النبي صلى الله عليه وآله: ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه(3).

وقول أمير المؤمنين عليه السلام: ليس من شيعتي من أكل مال مؤمن حراماً(4).

انّما يعيش صاحب هذا الحال مفتوناً، ويموت مغروراً، يقول يوم القيامة لمن دخل الجنّة من أهل السعادة هو وأمثاله: ألم نكن معكم؟ قالوا: بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربّصتم وارتبتم وغرّتكم الأمانيّ، حتّى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا، (دل هذا على انّه غير الكافرين)(5).

____________

1- المائدة: 27.

2- القصص: 83.

3- كنز الفوائد: 163; عنه البحار 92: 185 ح 23; مستدرك الوسائل 4: 250 ح 4620.

4- البحار 104: 296 ح 17; عن مجموعة ورام.

5- في "ج": على انّهم غير الكفار.


الصفحة 141

الباب السابع عشر
في أشراط الساعة وأهوالها


قال الله تعالى: {فهل ينظرون الاّ الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها}(1).

وقال سبحانه: {الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}(2).

وقال تعالى: {انّ الساعة آتية لا ريب فيها}(3).

وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أصدق الحديث كتاب الله، وأفضل الهدى هدى الله، وشرّ الاُمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، فقام إليه رجل وقال: يا رسول الله متى الساعة؟

فقال: ما المسؤول بأعلم بها من السائل، لا تأتيكم الاّ بغتة، فقال: فأعلمنا أشراطها، فقال: لا تقوم الساعة حتّى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، وتكثر الفتن،

____________

1- محمد: 18.

2- القمر: 46.

3- الحج: 7.


الصفحة 142
ويظهر الهرج والمرج، وتكثر فيكم الأموال(1)، ويخرب العامر، ويعمر الخراب، ويكون خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب.

وتطلع الشمس من مغربها، وتخرج الدابة، ويظهر الدجال، وينتشر يأجوج ومأجوج، وينزل عيسى بن مريم عليه السلام، فهناك تأتي ريح من جهة اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحداً فيه مثقال ذرّة من الإيمان الاّ قبضته. انّه لا تقوم الساعة الاّ على الأشرار، ثم تأتي نار من قبل عدن تسوق سائر من على الأرض تحشرهم، فقالوا: فمتى يكون ذلك يا رسول الله؟.

قال: إذا داهن قرّاؤكم اُمراؤكم، وعظّمتم أغنياءكم، وأهنتم فقراءكم، وظهر فيكم الغناء، وفشا الزنا، وعلا البناء، وتغنّيتم بالقرآن، وظهر أهل الباطل على أهل الحق، وقلّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واُضيعت الصلاة، واتبعت الشهوات، وميل مع الهوى، وقدّم اُمراء الجور فكانوا خونة، والوزراء فسقة، وظهر الحرص في القرّاء، والنفاق في العلماء، فعند ذلك ينزل بهم البلاء.

انّه ما تقدست اُمّة لا ينتصر لضعيفها من قويّها، وتزخرف المساجد، وتزوّق(2) المصاحف، وتعلى المنابر، وتكثر الصفوف، وترتفع الضجّات في المساجد، وتجتمع الأجساد والألسن مختلفة، ودين أحدهم لعقة على لسانه.

إن اُعطي شكر، وإن منع كفر، لا يرحمون صغيراً، ولا يوقّرون كبيراً، يستأثرون أنفسهم، توطأ حريمهم، ويجوروا في حكمهم، تحكم عليهم العبيد، وتملكهم الصبيان، وتدبر اُمورهم النساء، تتحلّى الذكور بالذهب والفضّة، ويلبسون الحرير والديباج، يسرون الجواري، ويقطعون الأرحام، ويخيفون(3)

____________

1- في "ج": الأهواء.

2- في "ج": تُذَهّب.

3- يحيفون: (خل).


الصفحة 143
السبيل، وينصبون العشّارين.

يجاهدون المسلمين، ويسالمون الكافرين، فهناك يكثر المطر، ويقلّ النبات، وتكثر الهزّات، وتقلّ العلماء، وتكثر الاُمراء، وتقلّ الاُمناء، فعند ذلك يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتل الناس عليه، فيقتل من المائة تسعة وتسعون، ويسلم واحد.

وقال [رجل](1): صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله من غلس(2) فنادى رجل: متى الساعة يا رسول الله؟ فزبره حتّى إذا أسفرنا رفع طرفه إلى السماء فقال: تبارك خالقها وواضعها وممهّدها ومحلّيها بالنبات، ثم قال: أيّها السائل عن الساعة، تكون عند خبث الاُمراء، ومداهنة القرّاء، ونفاق العلماء، وإذا صدّقت اُمتي بالنجوم، وكذّبت بالقدر، ذلك حين يتخذون الأمانة مغنماً، والصدقة مغرماً، والفاحشة رباحة، والعبادة تكبراً واستطالة على الناس.

وقال صلى الله عليه وآله: والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتّى يكون عليكم اُمراء فجرة، ووزرآء خونة، وعرفاء ظلمة، وقرّآء فسقة، وعبّاد جهّال، يفتح الله عليهم فتنة غبرآء مظلمة، فيتيهون فيها كما تاهت اليهود، فحينئذ ينقص الإسلام عروة عروة حتّى يقال: الله الله.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما من سلطان آتاه الله قوّة ونعمة فاستعان بها على ظلم عباده الاّ كان حقّاً على الله أن ينزعها منه، ألم تروا إلى قول الله تعالى: {انّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم}(3).

وقال النبي صلى الله عليه وآله: لا تزال هذه الاُمّة تحت يد الله وفي كنفه ما لم

____________

1- أثبتناه من "ج".

2- الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح./لسان العرب.

3- الرعد: 11.


الصفحة 144
يمالئ قرّاؤها اُمراؤها، ولم يوال(1) صلحاؤها أشرارها، فإذا فعلوا نزع الله يده منهم، ورماهم بالفقر والفاقة، وسلّط عليهم شرارهم، وملأ قلوبهم رعباً، ورمى جبابرتهم بالعذاب المهين، ويدعون دعاء الغريق لا يستجيب لهم(2).

وقال عليه السلام: بئس العبد عبد يسأل المغفرة وهو يعمل بالمعصية، ويرجو النجاة ولا يعمل لها، ويخاف العذاب ولا يحذره، يعجّل الذنب ويؤخّر التوبة، ويتمنّى على الله الأماني الكاذبة، فويل له ثم ويل له ثم ويل له من يوم العرض على الله.

وروي انّ عمر بن هبيرة لمّا ولي العراق من قبل هشام بن عبد الملك أحضر السبعي(3) والحسن البصري وقال لهما: انّ هشام بن عبد الملك أخذ بيعتي له على السمع والطاعة، ثم ولاّني عراقكم من غير أن أسأله، ولا تزال كتبه تأتيني بقطع(4)قطائع الناس، وضرب الرقاب، وأخذ الأموال، فما تريان في ذلك؟

فأمّا السبعي فداهنه وقال قولاً ضعيفاً، وأمّا الحسن البصري فانّه قال له: يا عمر! انّي أنهاك عن التعرّض لغضب الله برضى هشام، واعلم انّ الله تعالى يمنعك من هشام، ولا يمنعك هشام من الله تعالى ولا أهل الأرض.

أيأتيك كتاب من الله بالعمل بكتابه والعدل والإحسان، وكتاب من رسول الله صلى الله عليه وآله نبيّك، وكتاب من هشام بخلاف ذلك فتعمل بكتاب هشام وتترك كتاب الله وسنّة رسوله، انّ هذا لهو الحرب الكبير، والخسران المبين، فاتق الله تعالى واحذره، فانّه يوشك أن ينزل إليك ملك من السماء فينزلك من علوّ سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا يوسعه عليك الاّ عملك

____________

1- في "الف" و"ب": لم تزل.

2- أورده المصنّف في أعلام الدين: 281.

3- في "ب": الشبقي.

4- في "ب": قبض.


الصفحة 145
إن كان حسناً، ولا يوحشك الاّ هو إن كان قبيحاً.

واعلم انّك إن تنصر الله ينصرك ويثبّت أقدامك، فإنّ الله تعالى ضمن إعزاز من يعزّه، ونصر من ينصره، وقال سبحانه: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم}(1).

وقال سبحانه: {ولينصرنّ الله من ينصره}(2).

وقال: كيف أنتم إذا ظهر فيكم البدع حتّى يربوا فيها الصغير، ويهرم الكبير، ويسلم عليها الأعاجم، فإذا ظهرت البدع قيل سنّة، وإذا عمل بالسنّة قيل بدعة، قيل: ومتى يكون ذلك؟ قال: إذا ابتعتم الدنيا بعمل الآخرة.

وقال ابن عباس: لا يأتي على الناس زمان الاّ أماتوا فيه سنّة، وأحيوا فيه بدعة حتّى تموت السنن، وتحيى البدع، وبعد فوالله ما أهلك الناس وأزالهم عن المحجّة قديماً وحديثاً الاّ علماء السوء، قعدوا على طريق الآخرة فمنعوا الناس سلوكها والوصول إليها، وشكّكوهم فيها.

مثال ذلك مثل رجل كان عطشاناً فرأى جرّة مملوءة فيها مآء، فأراد أن يشرب منها فقال له الرجل: لا تدخل يدك فيها فإنّ فيها أفعى يلسعك وقد ملأها سمّاً، فامتنع الرجل من ذلك، ثم انّ المخبر بذلك أخذ يدخل يده فيها، فقال العطشان: لو كان فيها سّماً لما أدخل يده.

وكذلك حال الناس مع علماء السوء، زهّدوا الناس في الدنيا ورغبوا هم فيها، ومنعوا الناس من الدخول إلى الولاة والتعظيم لهم ودخلوا هم إليهم، وعظّموهم ومدحوهم، وحسّنوا إليهم أفعالهم، ووعدوهم بالسلامة، لا بل قالوا لهم: قد رأينا لكم المنامات بعظيم المنازل والقبول، ففتنوهم وغرّوهم، ونسوا قول

____________

1- محمد: 7.

2- الحج: 40.


الصفحة 146
الله تعالى: {انّ الأبرار لفي نعيم * وانّ الفجّار لفي جحيم}(1).

وقوله تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}(2).

وقوله تعالى: {يوم يعضّ الظالم على يديه}(3).

وقوله تعالى: {يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً}(4).

وقول النبي صلى الله عليه وآله: الجنّة محرّمة على جسد غذّي بالحرام(5).

وقول أمير المؤمنين عليه السلام: ليس من شيعتي من أكل مال امرء حراماً(6).

وقول النبي صلى الله عليه وآله: لا يشمّ ريح الجنّة جسد نبت على الحرام.

وقال عليه السلام: انّ أحدكم ليرفع يده إلى السماء فيقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، فأيّ دعاء يُستجاب له؟! وأيّ عمل يُقبل منه؟! وهو ينفق من غير حلٍّ، ان حج حج بحرام، وان تزوّج تزوّج بحرام، وان صام أفطر على حرام، فيا ويحه، أما علم انّ الله تعالى طيّب لا يقبل الاّ الطيّب، وقد قال في كتابه: {انّما يتقبّل الله من المتقين}(7).

وقال النبي صلى الله عليه وآله: ليكون عليكم اُمراء سوء، فمن صدّقهم في قولهم، وأعانهم على ظلمهم، وغشى أبوابهم، فليس منّي ولست منه، ولن يرد عليّ الحوض.

وقال صلى الله عليه وآله لحذيفة: كيف أنت يا حذيفة إذا كانت اُمراء ان

____________

1- الإنفطار: 13-14.

2- غافر: 18.

3- الفرقان: 27.

4- الدخان: 41.

5- كنز العمال 4: 14 ح9261.

6- البحار 104: 296 ح17; عن مجموعة ورام.

7- المائدة: 27.


الصفحة 147
أطعتموهم أكفروكم، وان عصيتموهم قتلوكم؟!، فقال حذيفة: كيف أصنع يا رسول الله؟ قال: جاهدهم ان قويت، واهرب عنهم ان ضعفت.

وقال صلى الله عليه وآله: صنفان من اُمّتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: الاُمراء والعلماء(1).

وقال الله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار}(2).

وقال: {ولا تطغوا فيحلّ عليكم غضبي}(3)، والله ما فسدت اُمور الناس الاّ بفساد هذين الصنفين، وخصوصاً الجائر في قضائه، والقابل الرشا في الحكم.

ولقد أحسن أبو نواس في قوله:


إذا خان الأمير وكاتباهوقاضي الأمر داهن في القضآء
فويل ثم ويلٌ ثم ويللقاضي الأرض من قاضي السماء

وجاء في تفسير قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله...}(4) الآية، نزلت فيمن يخالط السلاطين والظلمة.

وقال عليه السلام: الإسلام علانية باللسان، والايمان سرّ بالقلب، والتقوى عمل بالجوارح، كيف تكون مسلماً ولا تسلم الناس منك؟ وكيف تكون مؤمناً ولا تأمنك الناس؟ وكيف تكون تقيّاً والناس يتّقون من شرّك وأذاك؟.

وقال: انّ من ادعى حبنا وهو لا يعمل [عملنا ولا يقول](5) بقولنا، فليس منّا ولا نحن منه، أما سمعوا قول الله تعالى يقول مخبراً عن نبيّه: {قل ان كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله}(6).

____________

1- الخصال: 36 ح12 باب الاثنين; عنه البحار 2: 49 ح10.

2- هود: 113.

3- طه: 81.

4- المجادلة: 22.

5- أثبتناه من "ب".

6- آل عمران: 31.


الصفحة 148
ولما بايع أصحابه أخذ عليهم العهد والميثاق بالسمع لله تعالى وله بالطاعة في العسر واليسر، وعلى أن يقولوا الحق أينما كانوا، وأن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وقال: انّ الله تعالى ليحصي على العبد كل شيء حتّى أنينه في مرضه، والشاهد على ذلك قوله تعالى:

{ما يلفظ من قول الاّ لديه رقيب عتيد}(1).

وقوله تعالى: {انّ عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون}(2).

وقوله تعالى: {ان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}(3).

____________

1- ق: 18.

2- الإنفطار: 10-12.

3- البقرة: 284.