الصفحة 104

الباب الثاني عشر
في التوبة وشروطها


قال الله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً}(1)، يعني بالنصوح لا رجوع فيها إلى ذنب.

وقال سبحانه: {انّما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فاُولئك يتوب الله عليهم}(2).

قوله "بجهالة" يعني بمواقع العقاب، وقيل: بعظمة الله، وأخذه للعبد بعصيانه حال المواقعة، ثم قال سبحانه: {و ليست التوبة للذين يعملون السيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال انّي تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار}(3).

نفى سبحانه قبول التوبة عند مشاهدة أشراط الموت من العاصي والكافر، وانّما هي مقبولة ما لم يتيقن الموت، فانّه سبحانه وعد قبوله بقوله: {و هو الذي

____________

1- التحريم: 8.

2- النساء: 17.

3- النساء: 18.


الصفحة 105
يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات}(1). وبقوله سبحانه مخبراً عن نفسه: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب}(2).

فالتوبة واجبة في نفسها عن القبيح وعن الإخلال بالواجب، ثمّ إنْ كانت التوبة عن حقّ الله تعالى، مثل ترك الصلاة والصيام والحج والزكاة وسائر الحقوق اللاّزمة للنفس والبدن أو لأحدهما، فيجب على التائب الشروع فيها مع القدرة عليها في وقت القدرة، والندم على الإخلال بها في الماضي، والعزم على ترك العود.

وان كانت التوبة عن حق الناس يجب ردّه عليهم ان كانوا أحياء، وإلى ورثتهم بعد موتهم ان كان ذلك المال بعينه والاّ فمثله، وان لم يكن لهم وارث تصدّق به عنهم ان علم مقداره، والاّ فيما يغلب على ظنّه مساواته، والندم على غصبه، والعزم على ترك العود إلى مثله، ويستغفر الله على تعدي أمره وأمر رسوله وتعدّي أمر امام زمانه، فلكلّ منهم حق في ذلك يسقط بالإستغفار.

وان كانت توبته عن أخذ عرض، أو نميمة، أو بهتان عليهم بكذب، فيجب انقياده إليهم، وإقراره على نفسه بالكذب عليهم والبهتان، وليستبرئ لهم عن حقّهم ان نزلوا، أو يراضيهم بما يرضوا به عنه.

وان كانت عن قتل نفس عمداً أو جراح، أو شيء في أبدانهم، فينقاد إليهم للخروج عن [حقوقهم على](3) الوجه المأمور به من قصاص عن جراح، أو دية عن قتل نفس عمداً ان شاء أو رضوا بالدية، والاّ فالقتل بالقتل.

وان كانت التوبة عن معصية من زنا، أو شرب خمر وأمثاله، فالتوبة عنه الندم على ذلك الفعل، والعزم على ترك العود إليه، وليست التوبة قول الرجل "استغفر الله وأتوب إليه" وهو لا يؤدّي حقّه ولا حق رسوله ولا امامه ولا حق

____________

1- الشورى: 25.

2- الشورى: 25.

3- أثبتناه من "ب" و"ج".


الصفحة 106
الناس.

فقول الرجل هذا من دون ذلك استهزاء بنفسه، ويجرِ عليها ذنباً ثانياً بكذبه، كما روي انّ بعض الناس اجتاز على رجل وهو يقول: استغفر الله، ويشتم الناس ويكرّر الاستغفار ويشتم، فقال السامع له: استغفر الله من هذا الاستغفار والتكرار.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أيّها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وأصلحوا بينكم وبين ربّكم تسعدوا، وأكثروا من الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر تنصروا.

أيّها النّاس انّ أكيسكم أكثركم للموت ذكراً، وانّ أحزمكم أحسنكم استعداداً له، وانّ من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزوّد لسكنى القبور، والتأهّب ليوم النشور(1).

وكان صلى الله عليه وآله يقول في دعائه: "اللهم اغفر لي(2) وتب عليّ انّك أنت التواب الرحيم".

وقيل: انّ ابليس قال: وعزتك لا أزال أغوي [وأدعو](3) ابن آدم إلى المعصية ما دامت الروح في بدنه، فقال الله تعالى: "وعزّتي وجلالي لا أمنعه التوبة حتّى يغرغر بروحه(4).

وما يقبض الله عبداً الاّ بعد أن يعلم منه أنّه لا يتوب لو أبقاه، كما أخبر الله سبحانه عن جواب أهل النار من قولهم: {ربنا أخرجنا نعمل صالحاً}(5)، فقال

____________

1- راجع البحار 77: 176 ضمن حديث 10.

2- في "ج": اغفر لي كلّ ذنب عليّ.

3- أثبتناه من "ب".

4- راجع البحار 6: 16.

5- فاطر: 37.


الصفحة 107
تعالى: {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وانّهم لكاذبون}(1).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يستغفر في كل يوم سبعين مرّة، يقول: "استغفر الله ربّي وأتوب إليه"، وكذلك أهل بيته عليهم السلام وصالحوا أصحابه، لقوله تعالى: {استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إليه}(2).

وقال رجل: يا رسول الله انّي أذنبت، فقال: استغفر الله، فقال: انّي أتوب ثم أعود، فقال: كلّما أذنبت استغفر الله، فقال: اذن تكثر ذنوبي، فقال له: عفو الله أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور(3).

وقال: انّ الله تعالى أفرح بتوبة العبد منه لنفسه، وقد قال: {انّ الله يحب التوابين ويحب المتطهّرين}(4).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما من عبد أذنب ذنباً، فقام وتطهّر وصلّى ركعتين، واستغفر الله الاّ غفر الله له، وكان حقيقاً على الله أن يقبله، لأنّه سبحانه قال: {ومن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً}(5).

وقال: انّ العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنّة، فقيل: وكيف ذلك يا رسول الله صلى الله عليك وآلك؟ قال: يكون نصب عينيه، لا يزال يستغفر منه ويندم عليه فيدخله الله به الجنّة، ولم أر أحسن من حسنة حدثت بعد ذنب قديم، انّ الحسنات يذهبن السيّئات ذلك ذكرى للذاكرين.

وقال: إذا أذنب العبد ذنباً كان نكتة سوداء على قلبه، فان هو تاب وأقلع

____________

1- الأنعام: 28.

2- هود: 52.

3- مجموعة ورام 2: 223 نحوه.

4- البقرة: 222.

5- عنه الوسائل 11: 363 ح3; ومجموعة ورام 2: 223; والآية في سورة النساء: 110.


الصفحة 108
واستغفر صفا قلبه منها، وان هو لم يتب ولم يستغفر كان الذنب على الذنب، وذلك قوله: {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}، يعني غطّي(1).

والعاقل يحسب نفسه قد مات وسأل الله الرجعة ليتوب ويقلع ويصلح، فأجابه الله فيجد ويجتهد.

وجاء في قوله تعالى: {ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون}(2)، وقال: المصائب في المال والأهل والولد والنفس دون العذاب الأكبر، [والعذاب الأكبر](3) عذاب جهنّم، وقوله تعالى: {لعلّهم يرجعون} يعني عن المعصية، وهذا لا يكون الاّ في الدنيا.

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: احذر أن آخذك على غرّة فتلقاني بغير حجّة (يريد التوبة).

وروي انّ الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قوله تعالى: {ربّنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين}(4). وروي انّه وزوجته حوّاء رأيا على باب الجنّة "محمد، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين صفوتي من الخلق" فسألا الله بهم فتاب عليهما.

والتوبة على أربعة خصال: ندم بالقلب، وعزم على ترك العود، وخروج من الحقوق، وترك بالجوارح. وتوبة النصوح أن يتوب فلا يرجع فيما تاب عنه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمصر على الذنب مع الإستغفار يستهزئ بنفسه ويسخر منه الشيطان، وانّ الرجل إذا قال: "استغفرك يا ربّ وأتوب إليك" ثم عاد

____________

1- عنه مستدرك الوسائل 11: 333 ح13190; والآية في سورة المطففين: 14.

2- السجدة: 21.

3- أثبتناه من "ب" و"ج".

4- الأعراف: 23.


الصفحة 109
ثم قال، ثم عاد ثم قال، كتب(1) في الرابعة من الكذّابين.

وقال بعضهم: كن وصي نفسك، ولا تجعل الرجال أوصياءك، وكيف تلومهم على تضييع وصيّتك وقد ضيّعتها أنت في حياتك؟!(2).

وسمع أمير المومنين عليه السلام رجلاًيقول: "استغفر الله"، فقال: ثكلتك اُمّك، أو تدري ما حدّ الإستغفار؟ الإستغفار درجة في العلّيين، وهو اسم واقع على ستة معان، أوّلها: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً. والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس، والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت والمعاصي فتذيبه، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: "استغفر الله"(3).

ولقد أحسن بعضهم:


مضى أمسك الماضي شهيداً معدّلاوأصبحت في يوم عليك شهيد
فان كنت بالأمس اقترفت إساءةفثنّ بإحسان وأنت حميد
ولا تؤجل(4) فعل الصالحات إلى غدلعلّ غداً يأتي وأنت فقيد

وقال آخر:


تمتّع انّما الدنيا متاعوان دوامها لا يستطاع
وقدّم ما ملكت وأنت حيّأمير فيه متبع مطاع
ولا يغررك مَن توصي إليهفقصر وصيّة المرء الضياع
وما لي أن اُملك ذاك غيريواُوصيه به لولا الخداع

____________

1- في "ج": كان.

2- مجموعة ورام 2: 223.

3- نهج البلاغة: قصار الحكم 417.

4- في "الف": ترج.


الصفحة 110
وقال آخر:


إذا ما كنت متخذاً وصيّاًفكن فيما ملكت وصيّ نفسك
ستحصد ما زرعت غداً وتجنيإذا وضع الحساب ثمار غرسك


الصفحة 111

الباب الثالث عشر
في ذكر الموت ومواعظه


قال الحسن بن أبي الحسن بن محمد الديلمي، مصنّف هذا الكتاب، تغمّده الله برحمته: انّه من جعل الموت نصب عينيه زهّده في الدنيا، وهوّن عليه المصائب، ورغّبه في فعل الخير، وحثّه على التوبة، وقيّده عن الفتك، وقطعه عن بسط الأمل في الدنيا، وقلّ أن يعود يفرح قلبه بشيء من الدنيا.

وما أنعم الله تعالى على عبد بنعمة أعظم من أن يجعل [ذكر](1) الدار الآخرة نصب عينيه، ولهذا امتنّ الله على ابراهيم وذريّته عليهم السلام بقوله تعالى: {انّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار}(2).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اكثروا من ذكر هادم اللذّات، فانّكم إن كنتم في ضيق وسّعه عليكم فرضيتم به فاُثبتم، وان كنتم في غنىً بغّضه اليكم فجدتم به فاُجرتم، لأنّ المنايا قاطعات الآمال، والليالي مدنيات الآجال. انّ المرء عند خروج نفسه وحلول رمسه، يرى جزاء ما قدّم وقلّة غنى ما خلّف، ولعلّه من باطل

____________

1- أثبتناه من "ج".

2- ص: 46.


الصفحة 112
جمعه أو من حق منعه(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: من علم انّ الموت مصدره، والقبر مورده، وبين يدي الله موقفه، وجوارحه شهيدة له، طالت حسرته، وكثرت عبرته، ودامت فكرته.

وقال عليه السلام: من علم انّه يفارق الأحباب، ويسكن التراب، ويواجه الحساب، كان حريّاً بقطع الأمل، وحسن العمل(2).

فاذكروا رحمكم الله قوله تعالى: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد * ... فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}(3)، يعني شاهدته ما بقي عندك فيه شك ولا ارتياب بعدما كنت ناسياً له غير مكترث به.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أتدرون من أكيسكم؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: أكثركم للموت ذكراً، وأحسنكم استعداداً له، فقالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزوّد لسكنى القبور، والتأهّب ليوم النشور.

ولقد أحسن من قال:


اذكر الموت هادم اللذاتوتجهّز لمصرع سوف يأتي

[وقال آخر:](4)


ماذا تقول وليس عندك حجّةلو قد أتاك منغّص اللذّات
ماذا تقول إذا دُعيت فلم تجبوإذا تركت وأنت في غمرات
ماذا تقول إذا حللت محلّةليس الثقات لأهلها بثقات

____________

1- أورده المصنّف في أعلام الدين: 335; وفي البحار 77: 179.

2- البحار 73: 167 ح31; عن كنز الفوائد.

3- تلفيق من سورة ق: 19 و22.

4- أثبتناه من "ب" و "ج".


الصفحة 113

الباب الرابع عشر
في المبادرة بالعمل


يقول مصنف هذا الكتاب رحمه الله: انتبه أيّها الإنسان من رقدتك، وافق من سكرتك، واعمل وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وجد بما(1) في يديك لما بين يديك(2)، فإنّ أمامك عقبةً كؤداً لا يقطعها الاّ المخفّون، فأحسن الإستعداد لها من دار تدخلها عرياناً وتخرج منها عرياناً، كما قال تعالى:

{ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّة وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم}(3).

وقال النبي صلى الله عليه وآله: اعملوا في الصحّة قبل السقم، وفي الشباب قبل الهرم، وفي الفراغ قبل الشغل، وفى الحياة قبل الموت، وقد نزل جبرئيل عليه السلام اليّ وقال لي: يا محمد ربّك يقرئك السلام ويقول لك: "كل ساعة تذكرني

____________

1- في "ب": وخذ مما.

2- في "ج": بعد موتك.

3- الأنعام: 94.


الصفحة 114
فيها فهي لك عندي مدّخرة، وكل ساعة لا تذكرني فيها فهي منك ضائعة".

وأوحى الله إلى داود: [ياداود](1) كل ساعة لا تذكرني فيها عدمتها من ساعة.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ان امرء ضيّع من عمره ساعة في غير ما خلق له لجدير أن يطول عليها حسرته يوم القيامة(2).

[(3)وقد روي انّ شاباً ورث من أبيه مالاً جزيلاً، فجعل يخرجه في سبيل الله، فشكت اُمّه ذلك إلى صديق كان لأبيه وقالت: انّي أخاف عليه الفقر، فأمره ذلك الصديق أن يستبقي لنفسه من الأموال.

فقال له الشاب: ما تقول في رجل ساكن في ربط البلد، وقد عزم على أن يتحوّل إلى داخل المدينة، فجعل يبعث غلمانه برحله ومتاعه إلى داره بالمدينة، فذلك خير أم من كان يرحل بنفسه ويترك متاعه خلفه لا يدري يُبعث به إليه أو لا؟ فعرف الصديق انّه صادق في مثاله، فأمره بإنفاقه في الصدقات.

فعليك يا أخي بدوام الصدقات، فدوامها من دليل سعادات الدنيا والآخرة، ولا تحقرنّ قليلها فذلك القليل ينتظم إلى قليل مثله فيصير كثيراً.

وبادر بإخراج الزكاة إذا وجبت من المال أو كانت تطوّعاً، فإنّ الصدقة لا تخرج من يد المؤمن حتّى يفك بها سبعين شيطاناً، كلّهم [قد عضّ على قلب ابن آدم](4) ينهونه عن اخراجها، ولا تستكثر يا أخي ما تعطيه في الصدقة، وطاعة الله إذا استكثرها المؤمن صغرت عند الله، وإذا صغرت عند المؤمن كبرت عند الله.

وفي خبر انّ موسى عليه السلام قال لإبليس: أخبرني بالذنب الذي إذا

____________

1- أثبتناه من "ب" و"ج".

2- عنه معالم الزلفى: 245.

3- من هنا إلى ص 126 لم يرد في "الف" و"ب"، بل أثبتناه من "ج" و"د".

4- أثبتناه من "د".


الصفحة 115
عمله ابن آدم استحوذت عليه، فقال ابليس: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله وصدقته، ونسي ذنوبه، استحوذت عليه(1).

وايّاك ثم ايّاك أن تنهر سائلاً أو تردّه خائباً ولو بشق تمرة، وان ألحّ في السؤال لا تسأم بل ردّه ردّاً جميلاً إذا لم يكن عندك شيء تعطيه، فانّه أبقى لنعمة الله عليك، فانّه ربّما كان السائل ملكاً بعثه الله إليك في صورة بشر، يختبرك به ليرى كيف تصنع بما رزقك وأعطاك. ففي الحديث انّ الله تعالى لمّا ناجى موسى قال: يا موسى أنل السائل ولو باليسير والاّ فردّه ردّاً جميلاً، فانّه يأتيك من ليس بإنس ولا جان، بل ملك من ملائكة الرحمان يسألونك عمّا خوّلك، ويختبرونك فيما رزقك.

وروي انّ بعض العلماء كان جالساً في المسجد وحوله أصحابه، فدخل مسكين فسأل شيئاً فقال لهم العالم: أتدرون ما يقول لكم هذا المسكين؟ يقول: أعطوني أحمله لكم إلى دار الآخرة يكون لكم ذخيرة، تقدمون عليه غداً في عرصة المحشر.

فيا أخي يجب عليك أن تبعث معهم شيئاً جزيلاً من مالك إلى دار البقاء، ليكون ثوابك غداً الجنّة في دار النعيم الباقي الدائم.

ولله درّ القائل حيث يقول:


يا صاح انّك راحل فتزوّدفعساك في ذا اليوم ترحل أو غد
لا تغفلنّ فالموت ليس بغافل(2)هيهات بل هو للأنام بمرصد
فليأتينّ منه عليك بساعةفتود انّك قبلها لم تولد
ولتخرجنّ إلى القبور مجرّداًممّا شقيت(3) بجمعه صفر اليد

____________

1- البحار 13: 350 ح39; عن قصص الأنبياء.

2- في "د": الموت يأتيك بغتة.

3- في "د": سعيت.


الصفحة 116
قال الخليل بن أحمد لصديق له من الأغنياء: انّما تجمع مالك لأجل ثلاثة أنفس كلّهم أعداؤك، اما زوج امرأتك بعدك، واما زوج ابنتك، أو ولدك، وكل يتمنّى موتك ويستطيل عمرك، فان كنت عاقلاً ناصحاً لنفسك فخذ مالك معك زاداً لآخرتك، ولا تؤثر أحد هؤلاء على نفسك.

ولقد أجاد الشاعر حيث قال:


تورّع ما حرّم الله وامتثلأوامره وانظر غداً ما أنت عامله
فأنت بذي الدار لا شك تاجرلدار غد فانظر غداً من تعامله

وقال رجل صالح لبعض العلماء: أوصني، قال: اوصيك بشيء واحد، اعلم انّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما.

وهذا القول إذا تدبّره العاقل علم انّه أبلغ العظات، وقيل لعالم: ما أحمد الأشياء وأحلاها في قلب المؤمن؟ قال: شيء واحد وهو ثمرة العمل الصالح، قيل له: فما نهاية السرور؟ قال: الأمن من الوجل عند حلول الأجل، ثم تمثّل بهذين البيتين:


ولدتك إذ ولدتك امّك باكياًوالناس حولك يضحكون سروراً
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوافي يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وقال رجل للصادق عليه السلام: أوصني، قال له: أعد جهازك، وأكثر من زادك لطول سفرك، وكن وصيّ نفسك، ولا تأمن غيرك أن يبعث إليك بحسناتك إلى قبرك، فانّه لن يبعثها أحد من ولدك إليك(1).


ما أبين الحق لذي عينينانّ الرحيل أحد اليومين
تزوّدوا من صالح الأعمالوتصدّقوا من خالص الأموال

فقد دنى الرحلة والزوال

____________

1- البحار 78: 270 ح111 نحوه.


الصفحة 117

خرجت من الدنيا فقامت قيامتيغداة أقل الحاملون جنازتي
وعجّل أهلي(1) حفر قبري فصيّرواخروجي عنهم من أجل كرامتي

يجب على العاقل أن يحافظ على أوّل أوقات الصلاة، ويسارع إلى فعل الخيرات، فيكثر من أعمال البر والصدقات، فإنّ العمر لحظات، يقال: فلان قد مات، فإذا عاين في قبره الأهوال والحسرات قال: أعيدوني إلى الدنيا لأتصدّق بمالي، فيقال: هيهات.

فاغتنم أيّها اللبيب ما بقي لك من الأوقات، فإنّ بقيّة عمرك لا بقاء لها فاستدرك بها ما فات، واجتهد أن تجعل بصرك لاُخراك، فهو أعود عليك من نظرك إلى دنياك، فإنّ الدنيا فانية والاُخرى باقية، والسعيد من استعد لما بين يديه، وأسلف عملاً صالحاً يقدم عليه قبل نزول المنون، يوم لا ينفع مال ولا بنون.


وبادر شبابك أن يهرماوصحّة جسمك أن يسقما
وأيّام عزّك قبل المماتفما كل من عاش أن يسلما
وقدّم فكل امرء قادمعلى كل ما كان قد قدما

أقول في جمع المال والبخل به على نفسه وانفاقه في مرضات الله تعالى كما قال تعالى في كتابه: {ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة}(2).

وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله قال: يصوّر الله مال أحدكم شجاعاً أقرع، فيطوق في حلقه ويقول: أنا مالك الذي منعتني أن تتصدّق به، ثم ينهشه بأنيابه، فيصيح عند ذلك صياحاً عظيماً.

ثم عليك يا طالب الجنّة ونعيمها بترك حب الدنيا وزينتها، لأنّ الله تعالى قد

____________

1- في "د": عجّلوا.

2- آل عمران: 180.