الصفحة 25

18 - إنه تعالى لم يجعل لكل الناس القوة القدسية التي تكون علومهم معها فطرية القياس، فتكون القوة الوهمية والشهوية والغضبية مغلوبة دائما، وهذا ظاهر فإنه لم ينقل في عصر من الأعصار ذلك.

البحث الرابع
* (في أن نصف الإمام لطف) *

إعلم أن الإمام الذي حددناه إذا كان منصوبا يقرب المكلف بسببه من الطاعات، ويبعد عن المقبحات، وإذا لم يكن كذلك كان الأمر بالعكس، وهذا الحكم ظاهر لكل عاقل بالتجربة وضروري لا يتمكن أحد من إنكاره وكل ما يقرب المكلفين إلى الطاعة ويبعدهم عن المعاصي يسمى لطفا اصطلاحا، فظهر من ذلك أن كون الإمام منصوبا ممكنا (1) لطف في التكاليف الواجبة وما سيأتي في وجوب نصب الإمام يدل على أنه لطف أيضا (2).

البحث الخامس

لا يقوم غير الإمامة مقامها لوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره القدماء وهو أن اتفاق العقلاء في كل صقع (3) وفي كل زمان على إقامة الرؤساء يدل على عدم قيام غيرها مقامها (4).

____________

(1) مفعول مكن مضاعف العين.

(2) أي إن نصب الإمام مع التمكين لطف ومجرد النصب لطف أيضا، وإن لم يتمكن من القيام بوظائفه - كما سيأتي - وهذا دفع لما يخال من أن اللطف في الإمام إنما يكون مع التمكن فحسب.

(3) الصقع: بضم فسكون: الناحية.

(4) لا يرتاب ذو مسكة في حاجة الناس إلى الرئيس الدنيوي استتبابا للأمن ودفعا للفوضى، فكيف للجامع بين الرياستين دنيا ودينا؟ واتفاقهم من البدء إلى اليوم على إقامتهم هذه للرؤساء أقوى برهان على أنه لا يقوم مقام الإمامة شئ، وإلا لاستغنى الناس عن الرئيس.


الصفحة 26
الوجه الثاني: إن الغالب على أكثر الناس القوة الشهوية والغضبية والوهمية بحيث يستبيح كثير من الجهال لذلك اختلال نظام النوع الإنساني في جنب تحصيل غاية القوة الشهوية له أو الغضبية، ويظهر لذلك التغالب والتنازع والفساد الكلي، فيحتاج إلى رادع لها، وهو لطف يتوقف فعل الواجبات وترك المحرمات عليه وهو إما داخلي أو خارجي، فالأول: ليس إلا القوة العقلية، وإلا لكان الله تعالى مخلا بالواجب في أكثر الناس. وهذا محال، لأنه إن امتنع معه الفعل وكان من فعله تعالى كان إلجاء وهو ينافي التكليف، وإن كان من فعل المكلف نقلنا الكلام إليه (1) وإن كان مما يختار معه المكلف فعل الواجبات وترك المعاصي بحيث يوجب الداعي لذلك ويوجب المصارف عن ضده، وإن جاز معه الفعل بالنظر إلى القدرة لا بالنظر إلى الداعي، كما في العصمة، فالتقدير خلاف ذلك في الأكثر، والواقع ضد ذلك في غير المعصوم، ولأن البحث على تقدير عدمه، ولهذا أوجبنا الإمامة ولأنه يلزم إخلاله تعالى بالواجب، وإن لم يكن كذلك لم نجد نفعا في ردعها، وهو ظاهر والواقع يدل عليه والثاني: إن كان من فعله تعالى بحيث كلما أخل المكلف بواجب أو فعل حراما أرسل الله عليه عقابا أو مانعا أو في بعض الأوقات كان إلجاء وهو باطل، وإن كان من فعله تعالى الحدود ومن فعل غيره كإقامتها وهو المطلوب لأن ذلك الغير يجب أن يكون معصوما مطاوعا ليتم له ذلك فلا يقوم غيره مقامه (2) ولأنه إن وجب وصوله كل وقت يحتاج إليه لزم الجبر (3) وإلا فأما أن يكون من فعل الله تعالى بغير وساطة أحد

____________

(1) أي إن امتنع معه الفعل وكان من فعل المكلف كان ذلك الجاء أيضا، والالجاء ينافي التكليف، لسلبه الاختيار من المكلف.

(2) لأن غير المعصوم وإن أطيع لا يؤمن من خطئه في إقامة الحدود المقررة من قبله تعالى، فإقامة الحدود التي يقررها الحكيم سبحانه لا يقيمها دائما كما هي مقررة غير المعصوم.

(3) هذا برهان لحاجة الناس إلى الإمام في كل زمان، وتقريبه أن الإمام لا يراد منه حمل الناس قهرا على الطاعة وردعهم عن المعصية بحيث لا يكون لهم اختيار في فعل الطاعة وترك المعصية، فهو يحملهم ويردعهم بعد التعليم وإقامة الحجة فمن هنا يعلم أن الناس في حاجة دوما إلى هذا المرشد المعلم، فلو وجب وصوله في الأوقات الخاصة التي تخص على الحمل والردع مع التمكين للزم الجبر بسلب الاختيار.


الصفحة 27
من البشر بأن ينزل به عذابا إذا فعل أو آية عند عزمه والتقدير عدمه أو بتوسط البشر فهو مطلوبنا (1).

الوجه الثالث: إن تحصيل الأحكام الشرعية في جميع الوقايع من الكتاب والسنة وحفظها لا بد من نفس قدسية تكون العلوم الكسبية بالسنة إليها كفطرية القياس معصومة من الخطأ، ولا يقوم غيرها مقامها في ذلك إذ الوقايع غير متناهية والكتاب والسنة متناهيان، ولا يمكن أن تكون هذه النفس لسائر الناس فتعين أن تكون لبعضهم، وهو الإمام فلا يقوم غيره مقامه.

الوجه الرابع: المطلوب من الرئيس أشياء:

1 - جمع الآراء على الأمور الاجتماعية التي مناط تكليف الشارع فيها الاجتماع كالحروب والجماعات، فإنه من المستبعد بل المحال أن يجتمع آراء الخلق الكثير على أمر واحد وعلى مصلحة واحدة، وأن يعرف الكل تلك المصلحة ويتفقوا عليها، وأن تجتمعوا من البلاد المتباعدة، وأن تتفق دواعيهم على الحرب ومدته وجهته، والمهانات والمصلحة في جميع الأوقات، فإن الاتفاقي لا يكون دائما ولا أكثريا، ولا يقوم غير الرئيس في ذلك مقام الرئيس وهو ظاهر.

2 - التقريب المتقدم فيما يحتاج فيه إلى الاجتماع، فإن الناس لا يتفقون على مقدم فيؤدي إلى الاختلاف، وهو نقض للغرض، فلا بد أن يتميز بآية من الله تعالى ويكون منزها من كل عيب، ويكون معصوما لئلا تنفر الطباع عنه.

____________

(1) لأن الوسيط هو القائم بتعليم الناس شرائع الأحكام كما جاء بها صاحب الشريعة ولا يسلبهم الاختيار، ولا يصلح لتلك الوساطة غير المعصوم.


الصفحة 28
3 - حفظ نظام النوع عن الاختلال، لأن الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يستقل وحده بأمور معاشه لاحتياجه للغذاء والملبوس والمسكن، وغير ذلك من ضرورياته التي تخصه، ويشاركه غيره من أتباعه فيها، وهي صناعة لا يمكن أن يعيش الإنسان مدة بصنعها، فلا بد من الاجتماع بحيث يحصل المعاون الموجب لتسهيل الفعل، فيكون كل واحد يفعل لهم عملا يستفيض منه أجرا، لا يمكن النظام إلا بذلك وقد يمتنع المجتمعون من بعضها، فلا بد من قاهر يكون التخصيص منوطا بنظره لاستحالة الترجيح من غير مرجح، ولأنه يؤدي إلى التنازع.

4 - الطباع البشرية مجبولة على الشهوة والغضب والتحاسد والتنازع، والاجتماع مظنة ذلك فيقع بسبب الاجتماع الهرج والمرج، ويختل أمر النظام فلا بد من رئيس يقهر الظالم وينصر المظلوم، ويمنع عن التعدي والقهر ويستحيل عليه الميل والحيف (1) وإنما قصده الإنصاف، ويخاف من عقوبته العاجلة، فإن أكثر الناس أطوع لها الآجلة، لأنا نبحث على هذا التقدير بحيث يقاوم خوفه شهوته وغضبه وحسده، وغير الرئيس لا يقوم مقامه في ذلك لما تقدم، وأيضا فإنه معلوم بالضرورة.

5 - الحدود لطف أمر الشارع بها، فلا بد لها من مقيم، وغير الرئيس يؤدي أي الهرج والمرج والترجيح بلا مرجح، فلا يقوم غيره مقامه في ذلك.

6 - الوقايع غير محصورة، والحوادث غير مضبوطة، والكتاب والسنة لا يفيان بها، فلا بد من إمام منصوب من قبل الله تعالى معصوم من الزلل والخطأ، يعرفنا الأحكام ويحفظ الشرع، لئلا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمدا أو سهوا، أو يبدلها، وظاهر أن غير المعصوم لا يقوم مقامه في ذلك.

7 - تولية القضاء الذين يجب العمل بحكمهم في الدماء والأموال

____________

(1) الجور والظلم.


الصفحة 29
والفروج، وسعاة الزكوات الأمناء على أموال الفقراء وأمراء الجيوش الواجبي الطاعة في الحروب وبذل النفس والقتل، والولاة أمر ضروري لنظام النوع، ولا بد أن يكون منوطا بنظر واحد لاستحالة الترجيح من غير مرجح، والواقع اختلاف الآراء وتضاد الأهواء، وغلبة الشهوات وتغاير المرادات واتفاق الخلق من أنفسهم ابتداء على واحد في هذه المناصب متعسر بل متعذر، وفي كل زمان على شخص واحد بالشرائط التي يستحق معها ذلك ممتنع، فإن الاتفاقي يستحيل أن يكون أكثريا أو دائميا، فذلك الواحد الذي يناط تولية هؤلاء بنظره لا بد أن يكون واجب الطاعة من قبل الله تعالى، ويستحيل من الحكيم إيجاب طاعة غير المعصوم في مثل هذه الأمور الكلية التي بها نظام النوع وعدم اختلاله، وظاهر أن غيره لا يقوم مقامه على التقادير التي يبحث عنها.

8 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لطف لا يقوم غيره مقامه لوجوبه من غير بدل، فالأمر لطف واجب لا يقوم غيره مقامه لامتناع تحقق الإضافة بدون تحقق المضافين، ولا بد أن ينتهي إلى معصوم لا يجوز عليه الخطأ بوجه من الوجود ولا السهو، وإلا لجاز أمره بالمنكر ونهيه عن المعروف، فلم يبق وثوق بقوله فانتفت فائدة التكليف به، ولأنه أما أن يكون كل واحد من الخلق مأمورا بأمر الآخر ونهيه من غير أن يكون هناك رئيس يأمر الكل وينهاهم أو مع رئيس والأول باطل، وإلا لوقع الهرج والمرج ولانتفى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ الغالب أن يرضى الواحد بترك تأليم غيره ليترك تأليمه، لأنا نبحث على تقدير غلبة القوة الشهوية والغضبية على القوة العقلية في أكثر الناس الذين يحصل بسبب تخليتهم على قواهم الشهوية والغضبية المفتضية لعدم التفاتهم إلى الشرايع اختلال نظام النوع، فتعين الثاني فلا يقوم غير الرئيس في ذلك مقامه، ولا بد أن يكون ذلك الرئيس من قبل الله تعالى بحيث تجب طاعته وجوبا عاما، ولا بد أن يكون معصوما.

9 - العلم بالأحكام يقينا لا ظنا بالاجتهاد، لأن المصيب واحد على ما بيناه في كتبنا الأصولية، وقد تتعارض الأدلة وتتساوى الأمارات، ويستحيل

الصفحة 30
الترجيح بلا مرجح، وتتساوى أحوال العلماء بالنسبة إلى المقلدين، فلا بد من عالم بالأحكام يقينا لا ظنا بالأمارة، ليرجع إليه من يطلب العلم ويطلب الصواب يقينا.

الوجه الخامس: إن نظام النوع لا يحصل إلا بحفظ النفس والعقل والدين والنسب والمال فشرع للأول (1) القصاص، وأشار إليه بقوله تعالى:

* (ولكم في القصاص حياة) * وللثاني (2) تحريم المسكر والحد عليه، وللثالث (3) قتل المرتد والجهاد، وللرابع (4) تحريم الزنا والحد عليه، وللخامس (5) قطع السارق وضمان المال، وهذه أمور مهمة يجب حكمهما في كل شريعة في كل زمان ولا يتم إلا بمتول لذلك يكون عارفا بكيفية إيجابها، وكمية الواجب ومحله وشرائطه، ولا يقوم غيره مقامه، في ذلك، ولا بد أن يمتاز عن بني نوعه بنص إلهي ومعجز ظاهر لاستحالة الترجيح من غير مرجح، ولجواز اجتماع جميع الآراء على غيره لاختلاف الأهواء ولأنه لولا ذلك لأدى إلى الهرج والمرج.

الوجه السادس: أن قيام البدل مقامه (6) لا يتصور إلا في حال عدمه وقد تقرر حصول العلم الضروري إن التقريب والتبعيد (7) عند عدم نصب الإمام أو تمكينه (8) على عكس ما ينبغي فيستحيل أن يكون له بدل (9).

____________

(1) وهو حفظ النفس.

(2) وهو حفظ العقل.

(3) وهو حفظ الدين.

(4) وهو حفظ النسب.

(5) وهو حفظ المال.

(6) أي مقام الإمام المعصوم.

(7) أي التقريب من الطاعة والتبعيد عن المعصية.

(8) أي عدم تمكينه.

(9) وإيضاحه إننا نعلم بالضرورة بأن تقريب الناس من الطاعة وتبعيدهم عن المعصية بدون إمام منصوب منه تعالى أو مع عدم تمكينه لا يكون على ما ينبغي أن يكون، والوجدان أصدق برهان على ذلك، فإن التقريب والتبعيد على ما يريده سبحانه لم يحصلا في جميع الأوقات التي كان الإمام فيها غير متمكن لأن الناس من بعد الرسول صلى الله عليه وآله حتى اليوم لم يعملوا بالشريعة كما هي إلا أيام أمير المؤمنين عليه السلام، في البلاد التي كانت تحت سلطته، فيستحيل إذن أن يكون للإمام المعصوم بدل يقوم مقامه.


الصفحة 31

البحث السادس

في أن نصب الإمام واجب والنظر في الوجوب وكيفيته وطريقه ومحله وإبطال كلام الخصم.

النظر الأول في الوجوب

أجمع العقلاء كافة على الوجوب في الجملة خلافا للأزارقة (1) والأصفرية (2) وغيرهم من الخوارج (3) والدليل على الوجوب مطلقا أن الإمامة لطف وكل لطف واجب (4) والصغرى ضرورية قد ذكرناها، والكبرى مثبتة في علم الكلام لا يقال: إنما يجب اللطف عينا إذا لم يقم غيره مقامه، أما إذا قام فلا، سلمنا لكن الوجوب لا يكفي فيه وجه المصلحة ما لم يعلم انتفاء جهات القبح بأسرها فلم لا يجوز أن تكون الإمامة قد اشتملت على نوع

____________

(1) أتباع نافع بن الأزرق الحنفي المكنى بأبي راشد، وكانوا أكبر فرق الخوارج عددا وأشدهم شوكة.

(2) ويقال لهم الصفرية أيضا مثل والبترية وهم أتباع زياد بن الأصفر.

(3) غير أن الذي وجدته في أرجوزة بعض العلماء من الأباضية ما ظاهره الوجوب، وهي أرجوزة محمد بن عبد الله بن حميد بن سلوم السالمي العماني المولود عام 1286 والمتوفى عام 1332 المسماة ب " جواهر النظام " قال في مستهل مبحث الإمامة ج 2 ص 116:


يلزم نصب قائم في الناسفي أربعين رجلا أكياس

- بل يكاد أن يكون صريحا في الوجوب ولعل الوجوب رأي حادث لهم.

(4) أما لطف الإمامة فلكونها مقربة من الطاعة مبعدة عن المعصية، وإما أن كل لطف واجب فلكون اللطف محصلا للغرض، وذلك لأنه تعالى يريد عباده أن يعرفوه ويعبدوه، فلو كلفهم دون أن يبعث لهم الرسل المبلغين وينصب لهم الأئمة المرشدين حفظة للشرائع لم يحصل غرضه، فيجب عليه سبحانه تحصيلا لغرضه أن يبعث للعباد الأنبياء ويجعل لهم أوصياء معصومين.


الصفحة 32
مفسدة لا نعلمه؟ فلا يصح الحكم بالوجوب، وعدم العلم لا يدل على العدم، ووجه الوجوب علينا كاف لا عليه تعالى ولأن في نصبه إثارة الفتن وقيام الحروب، كما في زمن علي عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام، ولأن مع وجود الإمام يخاف المكلف فيفعل الطاعة، ويترك القبيح للخوف منه لا لكونه طاعة أو قبيحا، وذلك من أعظم المفاسد، ولأن فعل الطاعة وترك المعصية عند فقد الإمام أشد منهما عند وجوده فيكون الثواب عليهما في حال فقده أكثر منه في حالة وجوده، وذلك فساد عظيم، سلمنا كونها لطفا لكن لا نسلم دائما كذلك، فإنه قد يكون في بعض الأزمنة من يستنكف من اتباع غيره، فيكون نصب الإمام في ذلك الوقت قبيحا، وسلمنا لكن ها هنا لطف آخر، فلا تتعين الإمامة للوجوب لأن الإمام معصوم، فعصمته إن كانت لإمام آخر تسلسل، وإن كانت لا لإمام آخر ثبت المطلوب لأن امتناع الإمام من المعصية وترك الواجب (1) لا يتوقف على الإمام بل له لطف آخر.

لا يقال: إنا نعلم بالضرورة أن غير المعصوم احترازه عن فعل القبيح وفعله الطاعات عند وجود الإمام أتم، لأنا نقول: جاز أن يكون في بعض الأزمنة القوم بأسرهم معصومين فيه، فلا يكون نصب الإمام هناك واجبا لقيام العصمة مقام الإمام في ذلك الوقت، فجاز في كل وقت فلا يتعين وقت من الأوقات لوجوب نصب الإمام على التعيين، ولأنه جاز أن يكون غير العصمة سببا في الامتناع عن الإقدام على المعاصي، سلمنا لكن ها هنا ما يدل على أنها ليست لطفا وذلك لأنها أما أن تكون لطفا في أفعال الجوارح أو في أفعال القلوب والقسمان باطلان، أما الأول فعلى قسمين لأن القبايح منها ما يدل العقل عليها، ومنها ما يدل السمع عليها فإن جعلتم الإمام لطفا في الشرعيات لم يلزم وجوبه مطلقا، لأن الشرع لا يجب في كل زمان ووجوب اللطف تابع لوجوب المطلوب فيه، وإن جعلتموه لطفا في العقليات فنقول:

____________

(1) عطف على المعصية أي وامتناع الإمام من ترك الواجب.


الصفحة 33
القبايح العقلية إن تركت لوجه وجوب تركها كان ذلك مصلحة دينية، وإن تركت لا لذلك كانت مصلحة دنيوية، لأن في ترك الظلم والكذب مصلحة دنيوية ضرورة اشتماله (1) على مصلحة النظام، لكن معنى ترك القبيح لقبحه هوان الداعي إلى ترك الظلم هو كونه ظلما وذلك من صفات القلوب، فإن جعلنا الإمام لطفا في ترك القبيح، سواء كان لوجه قبحه أو لا لوجه قبحه، كان ذلك الترك مصلحة دنيوية، فيكون الإمام لطفا في المصالح الدنيوية، وذلك غير واجب بالاتفاق على الله تعالى، وإن جعلناه لطفا في ترك القبيح لوجه قبحه، فقد جعلنا الإمام لطفا في صفات القلوب لا في أفعال الجوارح، وذلك باطل لأن الإمام لا اطلاع له على الباطن.

لا يقال: يحصل بسببه المواظبة على فعل الواجبات وهو يفيد استعدادا تاما لخلوص الداعي في أن ذلك الفعل يفعل لوجه وجوبه، ويترك لوجه قبحه، وذلك مصلحة دينية، لأنا نقول: هذا يقتضي وجوب اللطف في المصالح الدنيوية على الله تعالى لأن على ذلك التقدير تكون المصالح الدنيوية والمواظبة عليها سببا لرعاية المصالح الدينية وذلك غير واجب اتفاقا، لأنا نجيب:

عن الأول: بأنه قد بينا أن الإمام لطف لا يقوم غيره مقامه، ونزيد هيهنا فنقول إن قيام البدل قيام البدل لا يتصور إلا في حال عدمه، وقد قلنا في صدر هذه المسألة إنا نعلم ضرورة أن التقريب والتبعيد عند عدم نصب الإمام أو تمكينه (2) على عكس ما ينبغي، فيستحيل أن يكون له بدل، ولقوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوت ومسجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) حكم بلزوم هذه المفاسد لانتفاء الرئيس فلو قام غيره مقامه لم تكن لازمة لانتفاء الرئيس، ولقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله

____________

(1) أي اشتمال ترك الظلم والكذب.

(2) أي عدم تمكينه عطفا على نصب الإمام.


الصفحة 34
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * جعل طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر متساويتين لاقتضاء العطف المساواة في العامل، وكما أن طاعة الرسول لا يقوم غيرها مقامها كذلك طاعة أولي الأمر (1) فلا يقوم غيرها مقامها، وأيضا فإن الوجوب عند المعتزلة مشروط باشتمال الفعل على مصلحة أو وجه يقتضي وجوبه، فإن قام غيره مقامه وكان مساويا له في الامكان والقدرة عليه والمصالح والوجوه الموجبة للوجوب بحيث لا يشتمل أحدها على وجه موجب للوجوب ويخلو الآخر عنه استحال إيجاب أحدهما عينا ووجب إيجابهما مخيرا، ولا شك في وجوب الإمامة في الجملة. فلو قام غيرها مقامها وكان مقدورا ممكنا استحال وجوبها عينا بل كان الله تعالى قد أوجب أحدهما لا بعينه، وهذا الدليل إنما يتأتى على قواعد المعتزلة القائلين بوجوب الإمامة سمعا، ولا يتأتى على قواعد الإمامية القائلين بوجوبها عقلا، ولا على قواعد الأشاعرة، ولأنه قد ثبت بالتواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول أنهم قالوا: يمتنع خلو الوقت عن خليفة ولو قام غير الإمام مقامها لما امتنع ذلك، وفيه نظر فإنه يدل على ذلك الوقت والمدعي في كل وقت (2).

وعن الثاني بوجهين، الأول: إن قرب المكلفين من الطاعة وبعدهم عن المعصية مما يطابق غرض الحكيم من التكليف ويقرب حصوله، وعكسهما مما يناقضه ويبعد حصوله، فلو كان فيما يطابق غرضه ويقرر حصوله مفسدة لكان غرضه مفسدة وذلك باطل على ما ثبت في العدل أنه لا يريد القبايح، والثاني: إن المفسدة تستحيل أن تكون راجعة إلى الحكيم إذ هو واجب

____________

(1) المراد من أولي الأمر الأئمة المعصومون وذلك لأن غير المعصومين يقوم غيرهم مقامهم، ولأنهم لو وجبت طاعتهم مع تجويز الخطأ عليهم لجاز اتباع الخطأ وهو مناف لغرضه تعالى، فإن الإمام إنما يريده سبحانه للصلاح وهو حمل الناس على العمل بالشريعة وإصابة الحق، فكيف يوجب تعالى طاعته وإن خالف الحق والشرع؟ فالأمر بطاعة غير المعصوم مستحيل عليه جل شأنه.

(2) ويجاب عن هذا النظر بأنه لم يحك عن الأزمنة المتأخرة أنها خالفت إجماع الصدر الأول، فهو ماض في جميع الأوقات ما لم تعلم مخالفته.


الصفحة 35
الوجود لذاته، غني عن غيره فلا يصح عليه جلب نفع ولا دفع ضرر، فلو كانت لكانت راجعة إلى غيره، والذي أثبتناه في وجوب نصب الإمام فيه المصلحة العامة للمكلفين، فلو كانت فيه مفسدة راجعة إليهم لكان عين ما هو مصلحة لهم مفسدة لهم خلف (1) وأيضا فإن المفاسد محصورة معلومة لأنا مكلفون باجتنابها وتلك منفية عن الإمام لا يقال: إنما نعلم المفاسد المشتملة عليها أفعالنا بل أفعال غيرنا التي لا نقدر نحن عليها فلا يجب معرفتها والإمامة عندكم ليست من فعلنا على ما يأتي بل من فعل الله تعالى فلا يجب العلم بالمفسدة التي تشتمل عليها لأنا نقول: لو كانت الإمامة مشتملة على مفسدة لما أوجبها الله تعالى على المكلفين ولما أوجب على الناس طاعة الإمام وأيضا لو اشتملت على مفسدة لنهى الله تعالى عن نصب الإمام، والتالي باطل قطعا، فالمقدم مثله والملازمة ظاهرة.

وعن الثالث: إنه لولا إمامة علي والحسن والحسين عليهم السلام لظهر من الفتن ما هو أشد من ذلك، ولأن الإمام كعلي والحسن والحسين عليهم السلام يدعون الناس إلى ما دعاهم النبي صلى الله عليه وآله ويخاصمهم على ما لو كان النبي صلى الله عليه وآله موجودا لخاصمهم عليه كذلك، فلو كان ذلك مانعا من نصب الإمام لكان مانعا من نصب النبي، ولأن الحث على الواجبات وترك المعاصي لو كانت مفسدة غير جائزة لامتنعت من النبي صلى الله عليه وآله (2).

وعن الرابع: إن ذلك يقتضي قبح الإمامة مطلقا سواء وجبت بالعقل أو من الله تعالى وذلك باطل اتفاقا، ثم نقول: المكلف إما مطيع أو عاص، ووجه اللطف في الأول تقويته على فعل الطاعة، وأما الثاني فلا نسلم إن ترك المعصية منه لا لكونها معصية قبيح، بل القبيح هو ذلك الاعتقاد، وهو كون الترك لا لكونها معصية ووجه اللطف فيه حصول الاستعداد الشديد ليثبت التكرير والتذكير الموجب لفعل الطاعة لكونها طاعة ولترك المعصية لكونها

____________

(1) هذا الحرفان إشارة إلى قولهم - هذا خلف - جرى على ذلك القدماء في مؤلفاتهم.

(2) بل لو كانت الحروب والفتن مانعة من نصب الإمام لبطلت إمامة من ادعوا إمامتهم إذ قل ما يتفق لأحد منهم إن خلت أيامه من حروب وفتن.


الصفحة 36
معصية (1).

وعن الخامس: إنه وارد في كل لطف مع إنا قد بينا وجوبه فيما سلف.

وعن السادس: إنا لا نسلم اتفاق أهل زمان ما من الأزمنة التي وقع فيها التكليف على ذلك، نعم قد يكون بعضهم بهذه المثابة لكن لو نظر إلى ذلك البعض لكانت بعثة الأنبياء قبيحة لاستنكاف بعضهم منها، وأيضا هذا إنما يكون بالنسبة إلى شخص معين، أما مطلق الرئيس فلا. ونحن الآن لا نتعرض لتعيين ذلك الرئيس وأيضا فلأن المفسدة الحاصلة عند عدمه أغلب منها عند وجوده فيجب وجوده نظرا إلى حكمته.

وعن السابع: إن الإمام لا شك في كونه لطفا بالنسبة إلى غير المعصومين مع بقاء التكليف فيكون حينئذ واجبا، أما إذا أفتقد أحد الشرطين وهو جواز الخطأ على المكلفين أو التكليف لم نقل بوجوب الإمامة حينئذ وذلك لا يضرنا (2) لا يقال مذهبكم وجوب الإمامة مع التكليف مطلقا: لأنا نقول لا نسلم بل مع شرط آخر وهو جواز الخطأ.

وعن الثامن: إنها مصلحة فيها والشرع، لا نسلم جواز انقطاعة مع بقاء التكليف، وهذا المنع يتأتى من القائل بعدم جواز انفكاك التكليف

____________

(1) ويجاب أيضا بأن العبد لو فعل الطاعة وترك المعصية خوفا منه تعالى لا لحسن الطاعة وقبح المعصية لكان ذلك أيضا من أعظم المفاسد بنظر هذا المعترض فتبطل عبادات الناس إلا من ندر، وأين من يزعم هذا من نبي الإسلام؟ على أن المقصود من بعثة تعالى الأنبياء ونصبه الأوصياء المعصومين عبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) نعم لو كانت العبادة لذاته تعالى، لأنه مستحق لها بذاته لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره لكان ذلك أفضل العبادات لأن سواها باطل.

(2) لأن الخطأ جائز على البشر دائما والتكليف باق أبدا، فلطف الإمامة مستمر، وأين من البشر المعصوم عدا من وجبت له العصمة؟ وأين الوقت الذي اتفقت فيه عصمة الناس بأسرهم ليستغنوا عن الإمام؟ ولو اتفق ذلك لا نأبى من القول باستغناء الأمة عن الإمام، فكل وقت إذن يتعين فيه نصب الإمام، لبقاء التكليف وتجويز الخطأ معا.


الصفحة 37
العقلي عن السمعي، سلمنا لكن ترك الظلم ليس مصلحة دينية لا غير بل هو مصلحة دينية ودنيوية لأن الاخلال به من التكاليف العقلية والسمعية، سلمنا لكنه يكون لطفا في أفعال القلوب، فإن ترك القبيح لأجل الإمام ابتداء مما يؤثر استعدادا تاما لتركه لقبحه.

النظر الثاني في كيفية الوجوب

والحق عندنا إن وجوب نصب الإمام عام في كل وقت وخالف في ذلك فريقان أحدهما أبو بكر الأصم (1) وأصحابه فإنهم: ذهبوا إلى أن وجوبه مخصوص بزمان الخوف وظهور الفتن، ولا يجب مع الأمن وإنصاف الناس بعضهم من بعض لعدم الحاجة إليه، والفريق الثاني الفوطي (2) وأتباعه فإنهم: ذهبوا إلى عدم وجوبه مع عدم الفتن، فإنه ربما كان نصبه سببا لزيادة الفتن واستنكافهم عنه، وإنما يجب عند العدل والأمن إذ هو أقرب إلى شعائر الإسلام، لنا دلالة الأدلة الدالة على وجوبه على عمومها، إذ مع الإنصاف والأمن يجوز الخطأ، ويحتاج إلى حفظ الشرع وإقامة الحدود، فيجب الإمام. ومع ظهور الفتن الخطأ واقع فالمكلف إلى اللطف يكون أحوج (3).

____________

(1) أحد رؤساء المعتزلة وأهل المقالات فيهم.

(2) هشام بن عمر الفوطي كانا من أرباب المقالات، وله فئة وأتباع وكان في عصر المأمون.

(3) إن الذي أوقع هذين الفريقين في الخطأ: زعمهم أن حاجة الناس إلى الإمام محدودة وفاتهم إن في الناس حاجة دائمة إلى الإمام، إذ لا يراد من الإمام صد الناس عن الفتن والفساد فحسب، بل يراد منه أيضا أن يدل الناس على الهدى ويعلمهم شرائع الإسلام كما جاء بها صاحب الشريعة، ويحفظ الشريعة عن التحريف والتصحيف والزيادة والنقصان إلى غير ذلك، ومتى تحصل الأمة على ذلك بدون إمام معصوم؟ مع ما هم عليه من الجهل بالشريعة والدين والخطأ عمدا وسهوا.


الصفحة 38

النظر الثالث في طريق وجوبه

انحصر قول القائلين بالوجوب في ثلاثة أقوال:

أحدها: إنه واجب بالعقل لا بالأوامر السمعية (1) وهو مذهب الإمامية والإسماعيلية.

وثانيها: القول بالوجوب سمعي وهو مذهب الأشاعرة.

وثالثها: القول بالوجوب عقلا وسمعا وهو مذهب الجاحظ (2) والكعبي (3) وأبي الحسين البصري (4) وجماعة من المعتزلة. لنا أن الوجوب هنا على الله تعالى لما يأتي فيستحيل أن يكون الوجوب سمعيا (5) ولأنه لطف في الواجبات العقلية فيقدم عليها والشرع متأخر عنها، فلو وجب بالشرع دار، ولأنها غير موقوفة على الشرع، واللطف فيها لذلك. والواجبات الشرعية موقوفة على الشرع، ولأنه لو وجب بالشرع لكان تعيينه إما من الله تعالى أو من المكلفين، والأول باطل على هذا التقدير إجماعا، أما عندنا فلعدم الوجوب شرعا بل عقلا، وأما عند الباقين فلعدم تعيين الله تعالى إياه، والثاني محال أيضا لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو تكليف ما لا يطاق، أو خرق

____________

(1) لا أن الأوامر السمعية لا حجية فيها، وإنما القصد أن الوجوب أولا وبالذات مستفاد من حكم العقل قبل ورود الشرع به، وإنما أمر الشرع إرشاد إلى حكم العقل، فإن الشرع إنما عرفناه من العقل قبل أن يصبح شرعا نافذ الحكم ماض الأمر.

(2) أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الشهير كان مائلا إلى النصب، وله كتب جمة، وكان قبيح المنظر، أصابه الفالج، وبقي مفلوجا إلى أن مات عام 255.

(3) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الشهير، كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لها الكعبية توفي عام 317 ه.

(4) محمد بن علي الطيب البصري المتكلم على مذهب المعتزلة، وهو أحد أئمتهم الأعلام وله تصانيف، توفي عام 436 ه.

(5) لأن الوجوب إذا ثبت عليه تعالى كان قبل أن يأتي السمع: نعم يكون السمع مرشدا إلى ذلك الوجوب العقلي، كما أشرنا إليه قريبا.


الصفحة 39
الاجماع، أو اجتماع الأضداد، أو عدم وجوب نصب الإمام، أو انتفاء فائدته، والكل محال، أما الملازمة فلأنه لو اختار قوم إماما، وآخرون آخر مع تساويهما في الصفات، فإما أن يكون أحدهما بعينه هو الإمام أو لا يكون أحدهما، أو يكون كل واحد منهما إماما، والأول يستلزم الترجيح بلا مرجح، والثاني يستلزم تكليف ما لا يطاق (1) وخرق الاجماع (2) وانتفاء فائدته (3) والثالث يستلزم اشتراط نصب الإمام باتفاق الكل وقبله لا يجب وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، لكن اتفاقهم على واحد مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء وما بينهم من العداوة والشحناء لا يمكن، والرابع يستلزم اجتماع الضدين أو النقيضين، لأنه إذا أمر كل بضد أمر الآخر، فإن وجب طاعتهما اجتمع الضدان، وإن لم تجب طاعة واحد منهما مع كونه إماما تجب طاعته اجتمع النقيضان، وانتفت فائدته، وإن وجب طاعة واحد منهما لزم الترجيح بلا مرجح، وكان هو الإمام واجتمع النقيضان أيضا، ولأنه (4) من الواجبات أيضا والواجبات إنما تتم بالإمام أو بالاجماع فيدور أو يتسلسل (5) ولأنه (6) إما أن يجب عليهم (7) نصب المعصوم أولا، والثاني محال لما يأتي، والأول يستلزم تكليف ما لا يطاق إذ العصمة أمر خفي لا يطلع عليه إلا الله

____________

(1) وذلك لأن المفروض وجوب معرفة الإمام وطاعته، فكيف يمكن للمكلفين ذلك مع عدم تعيينه.

(2) لأن إجماع المسلمين قام على تعيين الإمام بشخصه ومعرفته بذاته ومع تردده بين اثنين أو أكثر خرج ذلك عن موضوع الاجماع.

(3) لأن القصد من نصب الإمام حفظ الشريعة بتسيير نظامها وأحكامها كما صدع بها صاحب الشريعة، ومع تردده لم يحصل المطلوب.

(4) هذا التعليل البرهان الثاني على عدم صحة تعيين الإمام بالشرع ومن المكلفين.

(5) لعل الفارق هنا بين الدور والتسلسل هو شخص الإمام ونوعه، فعلى الأول يكون الدور، وعلى الثاني التسلسل، وبيانه إن الواجبات التي منها تعيين الإمام إذا احتاج تمامها إلى هذا الإمام الشخصي حصل الدور أو إلى إمام آخر حصل التسلسل.

(6) وهذا التعليل البرهان الثالث على عدم صحة تعيين الإمام بالشرع ومن المكلفين.

(7) أي على المكلفين.


الصفحة 40
تعالى، فيلزم تكليف ما لا يطاق، ولأن الواجبات الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما يختص بالنبي صلى آله عليه وآله.

الثاني: ما يختص بالأمة.

الثالث: ما يشترك بينهم.

فلو وجبت الإمامة بالشرع لكان إما من القسم الأول وهو على تقدير وجوبه سمعا باطل إجماعا (1) وإما من الثاني وهو باطل أيضا لأن الإمام إنما وجب لإلزام المكلفين بالواجبات وترك المحرمات وبه تحصيل نظام النوع، فهو أهم الواجبات فيستحيل إيجاب ملزم لهذه الواجبات التي لا يعم نفعها ولا تشمل من المصالح على ما يشتمل عليه الإمامة من دون إيجاب ملزم لهذه الواجبات العظيمة واستحالة هذا من الحكيم ضرورية (2) فيلزم التسلسل، ولأن الاتفاق، إما أن يكون شرطا أولا، والأول إما اتفاق الكل أو البعض، فإن كان الأول انتفى الواجب، إذ اتفاق الكل مع الاختلاف الأهواء وتشتت الآراء مما يتعسر بل يتعذر بل يستحيل وإن كان الثاني فأما بعض معين

____________

(1) وذلك لأن القائلين بوجوب الإمامة سمعا لا يرونها من الواجبات على النبي صلى الله عليه وآله.

(2) إيضاح ذلك أن نقول: إن الغرض من الإمامة حفظ الشريعة وحمل الأمة على الهدى وصدهم عن الردى ونظام نوع البشر واجتماعهم تحت لواء واحد إلى غير ذلك، فوجوب الإمامة من أهم الواجبات، بل هي أهم واجب، لأن بها أداء الواجبات ومنع المحرمات، ونرى أن هناك واجبات غير عامة النفع، ولا تشتمل على مصالح كمصالح الإمامة، وكانت مصالحها أوجبت الالزام بها، بل نرى كثيرا من المسنونات من عبادات وغيرها اهتم الشارع لبيانها، فكيف لا تكون مصالح الإمامة العظمى وفوائدها الكبرى لا توجب الالزام بها، فيستحيل على الحكيم سبحانه أن تكون لديه تعالى تلك المصالح الضعيفة باعثة على الالزام بتلك الواجبات ولا تكون المصالح الجلي والمنافع المهمة في الإمامة غير ملزمة بإيجابها عليه جل شأنه فوجوب نصب الإمام من قبله جل شأنه لتلك المصالح يجب أن يكون من البديهيات التي لا يختلجها الشك ولا يعتريها الريب، ويستحيل عليه تعالى إيجاب تلك الواجبات دون الإمامة.


الصفحة 41
أو غير معين، والأول باطل لأنه إما موصوف بصفة تميزه عن غيره كأهل الحل والعقد أو العلماء أو الصحابة أو غير ما سميتم أو لا يكون كذلك، والأول باطل لإمكان الاختلاف وتعذر الاجتماع واستحالة الترجيح بلا مرجح، والثاني يستلزم تكليف ما لا يطاق ووقوع الهرج والفساد، وإن كان الثاني وهو أن لا يكون الاتفاق شرطا يستلزم الهرج والمرج والفتن والترجيح بلا مرجح أو اجتماع الأضداد، وإما أن يكون من القسم الثالث فيلزم أن لا يخل النبي صلى الله عليه وآله بل ينص عليه وإلا لزم إخلاله بالواجب وهو محال.

النظر الرابع في محل الوجوب

الوجوب هنا يتحقق على الله سبحانه وتعالى، ويدل عليه وجوه:

الأول: إن اللطف ينقسم قسمين: أحدهما ما يكون من فعل الله تعالى: وثانيهما: ما يكون من فعل غيره، وكل قسم ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما يكون لطفا في واجب. وثانيهما: ما يكون لطفا في مندوب وقد تبين في علم الكلام إن كل ما هو لطف من الله تعالى في واجب كلف العبيد به على وجه لا يقوم غيره من أفعاله وأفعال غيره مقامه فيما هو لطف فيه فهو واجب على الله تعالى وإلا لقبح التكليف بالملطوف فيه (1) وانتقض غرضه (2)

____________

(1) مثال ذلك أن نقول: إنه لو كان الإمام لطفا في بيان الشريعة وصيانتها عن العيث والعبث، ولم يكن سواه من أفعاله وأفعال العباد ما يقوم مقام الإمام في ذلك تعين عليه تعالى نصب الإمام، وإذا لم يعمل هذا اللطف كان التكليف بأحكام الشريعة قبيحا لعجز البشر دون معلم وحافظ عن فهم حقيقة الشريعة وصيانتها وعن التحريف، والخطأ، والقبيح لا يصدر منه جل شأنه - وقد تبين في محله من الكلام وكيف يصدر منه القبيح وهو قادر على فعل الحسن، وغني عن عمل القبيح أوليس يقدر على نصب إمام معصوم يقوى على حفظ الشريعة وتعليم الناس أحكامها، فلماذا لا يفعله؟ ولو جاز منه تعالى فعل القبيح لارتفع الوثوق بوعده ووعيده، لإمكان وقوع الكذب منه - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - ولجاز عليه أيضا إظهار المعجز على يد الكاذب، وذلك يدعو إلى الشك في صدق الأنبياء، ويمنع من الاستدلال بالمعجز عليه، إلى غير ذلك من البراهين الكثيرة.

(2) فإن غرضه سبحانه هداية العباد وطاعتهم وما أنزل عليهم الشرائع إلا لذلك، فلو لم يكن لهم معلم وهاد وحافظ للشريعة بعد صاحب الشريعة لم يحصل غرضه تعالى.